رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 4 أكتوبر، 2016 0 تعليق

الوقف ودوره في التنمية المستدامة

تطور البلدان والمدن في التاريخ الإسلامي لايمكن تطوره دون مؤسسة الوقف وله تأثير بالغ في استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية

تطوير ومعالجة دور الوقف أضحى مطلباً ضرورياً في عصرنا الحالي، وذلك لتغير ظروف العصر ومتطلباته، وتعدد حاجات الأمة

 

الوقف نظام إسلامي شرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والأوقاف من أهم الموارد الاقتصادية للدولة الإسلامية، والجوانب الإنسانية في أوقافنا بلغت الآفاق، وأثبتت أن الأمة الإسلامية أمة حية، أمة تجديد لا أمة تبديد، وأمة ابتكار لا أمة تكرار، وأمة إبداع لا أمة ابتداع؛ جوانبها الرائعة تأخذ الألباب من دقتها واهتماماتها بأمثلتها الرائعة؛ تفردت بنتاجها الحضاري عن سائر الأمم، وأطلقت عليه الأمم المتحدة مسمى القطاع الثالث، وهو القطاع الخيري والوقفي والتطوعي، الذي هو أساس من أسس الدولة المعاصرة الثلاث.

الوقف وأبعاده التنموية:

     الوقف الإسلامي حماية للمال ومحافظة عليه من عبث العابثين، فتطول معه مدة الانتفاع من المال، ومد نفعه إلى أجيال متتابعة، ويضمن به مستقبل الذرية الأحياء في الدنيا مع بقاء أصله ودوام الانتفاع به والاستفادة منه.

     فقد حفظ المال والأموال المنتجة والمستثمرة عن طريق استمراريتها دون توقف، والانتفاع بها مدة طويلة ولأجيال متعاقبة، وأمن للمرء مستقبله ومستقبل ذريته بإيجاد مورد ثابت يضمنه وذريته، ويكون واقيًا لهم عن الحاجة والعوز والفقر.

     فكان له الأثر البالغ حين نزول المخاطر في وقف الأزمات ما كان له أثر كبير في قيام الصناعة الحربية؛ فقد كانت عائدات الأوقاف تستغل لتشييد القلاع، والحصون، والأبراج، ورعاية الجند، وصيانة المرافق الحربية.

     فالوقف يكمن تميزه وقوته في تشريعاته،تلك التشريعات التي جعلت الأوقاف وإن ضعفت مدة من الزمن لكنها تبقى حية لا تموت ولا يمكن طمسها.

     ولم يكن - في يوم من الأيام - مقصورًا على المساجد، فقد تنوعت أصوله، وتعددت مصادره ليشمل كل مناحي الحياة التعبدية، والتعليمية، والإرشادية، والإنسانية، والمعيشية، والإغاثية من المدارس، وحلق العلم والمكتبات والأبحاث والمستشفيات والمختبرات، والمؤسسات التي تسهم في تنمية العلاقات الاجتماعية الرفيعة بين الفقراء والأغنياء.

     وهو تنمية بشرية وتشغيل للأيدي العاملة ومعالجة لمشكلة البطالة، فقد استوعبت المؤسسات، والمشاريع الوقفية في العهود الإسلامية الكثير من الأيدي العاملة، وكانت أحياناً تصل إلى 60% من القدرات البشرية؛ ما أسهم في تحقيق النماء الاقتصادي للبلاد والعباد.

     وله تأثير بالغ في استقرار الأوضاع الاقتصادية في المدن؛ حيث أضحت الأوقاف محور حياة المدينة بكثرتها، وتنوعها وتكاملها؛ فقد احتلت المؤسسات الوقفية – الأسواق منها على وجه الخصوص - مكانًا مركزيًا على الخريطة الاقتصادية في المدن، وحافظت على وجود الأسواق قرونًا طويلة في مواقعها نفسها.

 الوقف الإسلامي بشهادة ألمانية:

     قدم (المستر إي اهلر) دراسة بالألمانية بعنوان (في البحث عن الهوية: دراسة في الوقف والمدينة الإسلامية في الشرق الأوسط) وجمع فيها الأبحاث والدراسات التي كتبت في أوروبا حتى عام 1992م، في الدور التنموي للأوقاف الإسلامية، والعوامل التي مكنت مؤسسات الوقف أن تؤدي دورها الجليل في الحضارة الإسلامية. وخَلُص (إي اهلر) في دراسته إلى أن الوقف أثر بعوامل ثلاثة:

1- عوامل وظيفية.

2- عوامل شكلية/ وضعية.

3- عوامل دينية/ ثقافية.

      وأن العوامل هذه كلها عملت بالتداخل لصياغة الحواضر الإسلامية، معمارياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. يؤكد (إي اهلر) أن من المسلَّم به بين دارسي الحضارة الإسلامية أن تطور البلدان والمدن في التاريخ الإسلامي لا يمكن تصوره دون مؤسسة الوقف؛ حيث إن وضع الجامع في مكان ما وإحاطته بالأسواق والدكاكين الموقوفة عليه والمدارس الملحقة به، فرض نمطاً في التطور المعماري، ونقل الأمة نقلة حضارية في العمارة وتخطيط المدن، وتجلى هذا الأثر بأوضح أشكاله في المدن الصغيرة التي أوقفت بها أوقاف كبيرة؛ حيث أصبحت الأوقاف محور حياة المدينة، وفرضت علاقات ليست في العمارة فقط، بل في الثقافة والاقتصاد والاجتماع. ولم تقتصر الأوقاف على الأسواق والمدارس وحدها، بل غالباً ما أضيف إليها من المستشفيات والحمامات والخانات في أوقاف متكاملة جعلت مركز الحياة في المدينة الإسلامية تدور حول مؤسسات الوقف.

     كذلك تنتقل بنا الدراسة إلى الأثر الاجتماعي والاقتصادي للوقف؛ حيث يشير الباحث إلى نقطة قلما تنبه لها الدارسون، وهي أن الأسواق الموقوفة، في الوقت الذي احتلت فيه مكاناً مركزياً على الخريطة الاقتصادية في المدن، نجدها باستمرار تؤجر بإيجارات منخفضة عن قريناتها، وبذلك أثرت تأثيراً بالغاً في الاستقرار الاقتصادي؛ من حيث ضبط الأسعار، ومن حيث الحياة اليومية؛ إذ بقيت الأسواق قروناً طويلة في مواقعها نفسها ويلاحظ هذا جلياً في دلهي ويزد ومدن فلسطين كالقدس والخليل، وفي بلاد المغرب.

     أما في الجانب السياسي، فإن (مستر إهلر) ينبهنا إلى أثر الوقف بطبيعته المستديمة وقدسيته الدينية، قد أدت مؤسساته دوراً كبيراً في فترات الصراع السياسي، ووفرت حماية واستقراراً كبيرين للمؤسسات التعليمية والدينية والمكتبات والرعاية الاجتماعية، ويكفي للدلالة على هذا الأثر السياسي أن معظم الدول الإسلامية وجدت الحاجة لإقامة وزارة خاصة بشؤون الأوقاف».

الأدوار التي حققها الوقف في العهود الإسلامية

     لا شك أن توسع دولة الإسلام شرقاً وغرباً، تطلب أن يتطور الوقف، ويتعدد، ليفي بحاجات الأمة، وكان ذلك عملاً لا قولاً، فقد وثق لنا التاريخ، بل وشاهدنا بأعيننا أوقافاً مازالت قائمة، وشاهدة على المكانة التي وصلت إليها الأمة في عصور العزة؛ لذا أنشئت الأوقاف لتحفظ ضروريات الإسلام الخمس..

     فمن الأوقاف ما خصص لإقامة المساجد وعمارتها، وتعليم المسلمين أمور دينهم، ومنها ما خُصص ريعها لفك الأسرى، وتجهيز الجنود، وتصنيع السلاح والدروع، وتدريب خيول الجهاد، والأفراد على الفروسية، حتى بلغ الأمر في الوقف أن خصصت أرضاً في الشام، لرعاية خيول الجهاد التي هرمت، لتعيش حياة كريمة في حال هرمها، تقديراً للخدمات الجليلة التي قدمتها للأمة جمعاء في نشر الإسلام والفتوحات، وإقامة الدين، والعدل بين الناس.

     وبلغت المدارس الوقفية مبلغاً عظيما؛ فكانت في القدس وما حولها ما يقارب سبعين مدرسة وقفية، وكانت في الشام تزيد عن أربعمائة مدرسة وقفية، ولكل مدرسة أوقاف خصصت لها؛ فكانت كل مدرسة تُعد جامعة في عصرنا الحالي بل وتفوق، ففيها العلماء والطلبة المتميزون المبدعون، الذين أخرجوا لنا من الكنوز العلمية، ما تعجز عنه جامعاتنا الحالية !، فقد هيئت تلك المدارس لتكون بيئية علمية إبداعية، وفرت فيها قاعات، ومقاعد دراسية، ووسائل تعليمية، ومكتبات، ومختبرات، وأماكن آمنة مريحة لسكن طلبة العلم، والعاملين في تلك المؤسسة الوقفية المتكاملة، بل والحمامات الصحية، والمرافق الأخرى التي توفر الحياة الكريمة لكل ما يضمه الوقف من أنفس بشرية.

     وكانت تكية خاصكي سلطان في القدس ( 959هـ-1551م ) التي خصصت لإطعام الفقراء والأسر المتعففة في القدس مثالاً لواجب إطعام الطعام لأهل الحاجة. وقد بلغ عدد القرى والمزارع الموقوفة على التكية 34 قرية ومزرعة. وما زالت إلى يومنا هذا تقدم الطعام للأسر المعوزة.

فقد حقق الوقف الآتي:

1. الأمن الغذائي، وتحقيق الحاجيات الأساسية.

2.  توزيع الثروة وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع.

3. توفير التعليم المجاني للفقراء من خلال المدارس والجامعات.

4. توفير الأمن الصحي للفقراء والمحتاجين من خلال المستشفيات.

5.  رعاية الأيتام وكفالتهم وتربيتهم من خلال الوقف الخاص بهم، أو الوقف العام للفقراء والمحتاجين.

6. توفير الوظائف من خلال النظار والموظفين والمشرفين.

7. المساهمة في تطوير العمل الخيري في المجتمع الإسلامي.

8. المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً.

لماذا حارب الاستعمار الوقف:

- نتساءل: لماذا حارب الاستعمار الفرنسي حينما احتل الجزائر الأوقاف الإسلامية، وضمها لتكون بحوزة المستعمر؟ ولماذا حارب الاحتلال البريطاني لفلسطين في الفترة مابين 1917 إلى 1948 الأوقاف والمحاكم الشرعية الإسلامية؟ بل وضمها في دائرة أسماها العدل والقضاء التي يرأسها مستشار قضائي (المستر بنتويش)، وهو يهودي ومن رجال الحركة الصهيونية.

     وكذلك دور الفرنسي سان سيمون أيام محمد علي باشا في عام 1224هـ حينما اقترح تأميم الأوقاف، وإذا بها تعاني العجز والإهمال وأضحت عبئاً على الدولة، بعد أن كانت وعلى مدى 12 قرناً من الزمان قوة مساندة للأمة، تقف في مواجهة النوازل والنكبات.

     فالأوقاف المرصدة على المدارس والمساجد للتعليم بلغ من كثرتها في بلد واحد مثل مصر في عهد محمد علي باشا عند مسح الأرض الزراعية في مصر وجد أنها تبلغ مليوني فدان -4200م2- من بينها ستمائة ألف فدان من الأراضي الموقوفة.

     والكيان اليهودي مارس منذ احتلاله لمدينة فلسطين والقدس أبشع الإجراءات والاعتداءات على الأوقاف الإسلامية، بدءا من تدمير حارة المغاربة الوقفية التي كانت تضم 135 بيتاً وأربعة مساجد والمدرسة الأفضلية وأوقاف أخرى، وطالت الاعتداءات قبور الأموات، فأقاموا متحفاً أسموه (متحف التسامح)!! على أرض مقبرة (مأمن الله) التاريخية التي تضم رفات الصحابة والصالحين والفاتحين. وسبق ذلك تدمير أكثر من 1200 مسجد في المناطق التي احتلوها عام 1948م، وحولوا ما تبقى منها إلى بارات ومطاعم ومراقص وبيوت للخنا والفجور الذي يجيدونه.

     وقد عّدّ اليهود الأوقاف الإسلامية أملاك غائبين؛ لذا نقلوا 75% من أراضي وعقارات الأوقاف إلى مؤسسات يهودية حسب قوانين أملاك الغائبين وقوانين أخرى متصلة، وبذلك أضحت الأوقاف الإسلامية في القدس وفلسطين أملاكاً وأموالاً يهودية، ودمروا بذلك القطاع الوقفي، ليضعفوا شوكة أهل فلسطين، ويهينوا كرامتهم ببحثهم عن لقمة العيش، وإضعاف الرعاية لأهل الحاجة والعوز .

واقع الأوقاف في عصرنا:

     أصاب الوقف في العهود المتأخرة- التي تسلط فيها المستعمر على بلداننا، واليهود على أرضنا ومقدساتنا- الترهل الإداري والفساد المالي، وعاش مرحلة الرتابة والتكرار والتقليد، الذي لا إبداع فيه ولا تجديد؛  لذا فإن تطوير ومعالجة دور الوقف أضحى مطلباً ضرورياً في عصرنا الحالي، وذلك لتغير ظروف العصر ومتطلباته، وتعدد حاجات الأمة، وذلك لن يكون إلا إذا فقهنا مقاصد الوقف وأحكامه وضوابطه الشرعية، وأسس إدارته، وفنون نمائه، والحاجات الفعلية لمجتمعاتنا، القائمة على الدراسات والاستبانات، والشراكة الحقيقية بين قطاعات الدولة الثلاث: الحكومي والتجاري والوقفي.

     فلا شك أن استشراف المستقبل والتطلع الحضاري لأمتنا لن يكون إلا إذا أولينا العمل الخيري والوقفي والتطوعي غاية اهتمامنا، وعملنا بكل جهدنا لإحياء سنة الوقف، وإقامة المؤسسات الوقفية التي تُسهم في حفظ كرامة الإنسان، وتوفير الحياة الكريمة للأسرة المسلمة، وتوفير التعليم المميز الذي يحقق الإبداعات العلمية، والمؤسسات الصحية والثقافية التي تقدم الجديد كما كانت في عهود العزة. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك