رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 10 أغسطس، 2022 0 تعليق

الوقف في تراث الآل والأصحاب (16) مقاصد شرعية وفــوائــد فقـــهيــة من أوقاف النبي صلى الله عليه وسلم

 

هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في تلك الأوقاف، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

يمكن للنّاظر أن يخلُصَ إلى أنّ الأوقافَ في عصر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه تُفضي بنا إلى اعتبارِ عدد من المعالِم أهمها ما يلي:

1- الوقْف سُنَّةٌ قائمةٌ عمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتّبعه آل بيتِه وأصحابُه -رضوان الله عليهم-، ثمّ التّابعون والمسلمون من بعدهم؛ فهو نظام إسلاميٌّ شُرع بالكتاب والسُّنَّةِ وإجماع الصّحابة.

2-  الصّدقة الجارية والوقف، كان يُطلَقُ عليه في عهد الصحابة مسمّى: (الصّدقة)، والصّدقة الجاريةُ إحدى الصّدقات بلا شكّ، لكنها جُعلت في عين تحبس ليستمرّ نفعها وأجرها، وسمّيت وقفاً، والوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهو: المنع من التصرف.

3- الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، وتبقى عينه، فأمّا الذي يُستهلَكُ بالانتفاع به فهو صدقة، وليس وقفاً؛ فلا يصحّ وقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام.

4- متى ثبت الوقف فإنّ العين لا يجوز أنْ تباع، ولا أنْ توهب، ولا أنْ تورَث.

5- يُستحبُّ أنْ يكون المال المعطى صدقةً أو وقفًا من أجود وأنفس مال المتصدّق وأحبّه إليه، وهذا فِعل الصحابة والسلف؛ إذا أحبّوا شيئاً جعلوه لله -سبحانه وتعالى.

الصّدقة تصل إلى الميّت وتجري عليه الحسنات

6- الصّدقة تصل إلى الميّت وتجري عليه الحسنات إلى ما بعد الممات، وفي هذا إجماع الأمة، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، والصدقة الجارية عمادُها الوقف.

7- التصدُّق للوالدين باب من أبواب برّهما حتى بعد موتهما، وهي من الأعمال التي يصل ثوابها للميت، وهذا عمل سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، حيث بلغ به بر أمّه أنّه وقف لها وقفاً ينال به الأجر عند الله، ويجري لأُمِّه به الأجرُ بعد الممات، فالوقف من أعمال الأحياء المالية التي ينتفع بها الميت.

استشارة العلماء وأصحب الخبرة

8- يستحب لصاحب الوقف إذا أراد وَقفه: أن يستشير العلماء والصالحين وغيرهم من ذوي الخبرة والمعرفة، فعمر - رضي الله عنه - استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنفس مال ملكه كيف يتصدق به، وعثمان - رضي الله عنه - عندما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق طلبه بشراء بئر رُوْمَةَ من خالص ماله، أرشده إلى أن يجعلها سقاية للمسلمين كافّة في كلّ عصر، يشرب منها الغني والفقير، والمقيم وابن السبيل.

9- العلم الذي يُعَدُّ صدقةً جاريةً ويجري للعبد فيه الأجر بعد مماته هو: العلم الذي يُنتفع به، أما العلم الذي لا نفع فيه، أو العلم الذي فيه مضرة، والعلوم المفسدة للدين والأخلاق؛ فلا تدخل في الحديث، وليست من الصدقة الجارية.

10- للواقف أنْ يشترط لنفسه جزءاً من ريع الموقوف؛ لأنّ عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر أو غيره، فدلّ على صحّة الشّرط، ويُستنبَط كذلك منه صحّة الوقْف على النفس.

من مقاصد الوقف

11- من مقاصد الوقف: الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستفيدين، كوقف النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعدُّد مصارفه (الموقوف عليهم)، وكذلك وقف عثمان - رضي الله عنه - لبئر رُوْمَة، ووقف علي - رضي الله عنه - لأرض ينبع، ووقف بني النجار حائطهم لإقامة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها.

12- الوقف صدقة ليست بواجبة، وإنما يتطوّع بها المسلم ويبذلها لوجه الله سبحانه وتعالى، فالوقف سنة مستحبة؛ مسنونة مشروعة، لا سيما مع حاجة الناس إليها، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - «إن شئت حبست أصلها» من باب الخيار، فالوقف سنة مستحبة.

توثيق الوقف

13- الصحابة -رضوان الله عليهم- وثّقوا جميع وقفياتهم بالكتابة أو بالإشها أو بكلَيْهِمَا؛ كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وغيره من الصحابة، وكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- كتب كتابه وفق ما ورد في وقفية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وحرص الصحابة -رضي الله عنهم- على رعاية أوقافهم، بأنْ توَلَّوْا نظارتَها في حياتهم، ومنهم: عمر وعلي -رضي الله عنهم-، فقد كانا ناظرين لوقفَيْهِما.

تدوين الوقفية

14- تدوين الوقفية كان له الأثر العظيم في حفظ الوقف، فقد يقع النزاع فيه بعد موت الواقف، وقد تنازع بعض أبناء الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فلجؤوا إلى الأمراء وبأيديهم الصكوك الوقفية والشهود؛ فحُكم بما في الصكوك الشرعية.

15- الوقف في حال الصحّة والقوّة أفضل من التعليق بالموت أو الوصيّة حال المرض والاحتضار؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان أعظم الصّدقةِ: «أنْ تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقومَ قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان».

16- جواز التصدق من الحيّ في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وما بقي له من المال والممتلكات.

17- في أنواع الوقف وأقسامه: لم يكن المتقدمون يفرّقون في التسمية بين ما وُقف على الذرية، وما وُقف على غيرهم من جهات البرّ، بل الكل يسمى عندهم: وقفاً، أو حبساً، أو صدقة. فالوقف -سواء كان على الأهل، أو على سائر جهات البر- فيه معنى الخير، والإحسان، والصدقة.

18- الصحابة -رضي الله عنهم- عرفوا نوعَي الوقف: الخيري والذُّرّيَّ، وهذا واضح من خلال النصوص الوقفية التي كتبوها في وقفياتهم، وأشهدوا الناس عليها.

19- جواز وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه: جواز وقف الحيوان، وما ينتفع به المسلمون من أنواع المركوبات اليوم من السيارات والطائرات والسُّفُن والزّوارق، وسائر الآليّات من وسائل النقل الحديثة، ويجري على واقفها الأجر العظيم.

التصريح بالوقف وإشهاره وإعلانه

20-  جوار التصريح بالوقف وإشهاره وإعلانه، والجهر بطلب أجر ذلك العمل من الله سبحانه وتعالى، وجواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك؛ لدفع مضرة، أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة، والمكاثرة، والعجب، كما فعل عثمان - رضي الله عنه - مع الخارجين عليه.

21- صحة وقف المشاع الذي ينتفع به، والأرض المشاع يصح وقفها، كما فعل بنو النجار، وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ وانعقد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه: أنّ من وقف أرضاً على أنْ يبنيها مسجداً، انعقد الوقف قبل البناء.

انتفاع الواقف بوقفه

22- جواز انتفاع الواقف بوقفه، مثل ما فعل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في وقفه بئراً في المدينة المنورة؛ حيث أوقفها على المسلمين وجعل دلوه كأحد دلاء المسلمين، ووقف أنس داراً له في المدينة فكان إذا حج مرّ بالمدينة فنزل داره، فمن وقف مسجداً يكون هو وأولاده من جملة المصلين، ولمن وقف معهداً أو مدرسة تحفيظ للقرآن الكريم أن يكون أولاده من جملة الدارسين من الطلبة.

نظارة المرأة على الوقف

23- جواز نظارة المرأة على الوقف إذا تحلّت بالكفاءة اللازمة للقيام بشؤون النظارة، وتقديمها على أقرانها من الرجال، فتخصيص حفصة -أم المؤمنين- دون إخوتها وأخواتها في النظارة على وقف عمر -رضي الله عنهما- دليل على رجاحة عقلها وحسن إدارتها.

24- استحباب التفصيل في حجج ووثائق الوقف لحفظ الوقف واستمراره، وإزالة اللبس في أعيانه وحدوده وشروطه ومصارفه، ومن يتولاه في النظارة.

25- للواقف أن يشترط في وقفه ما يريد، بشرط ألَّا ينافي حكم الوقف، ولا يضر بالموقوف، ولا بمصلحة الموقوف عليهم، ولا يخالف شرع الله، ولا تصح مخالفته، وهو الذي قال فيه الفقهاء: «شرط الواقف كنص الشارع»، أي: في الفهم والدلالة والتزام العمل به.

26- تولّى الخلفاء الراشدون النظر في بعض أموال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، والبعض الآخر آلت نظارته إلى آل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حتى استقل به آل العباس في خلافتهم ثم انقطع أخبارها بعد ذلك، ترى ذلك في بعض ما أحلْنَا عليه من المصادر عند الحديث عن وقف عليّ - رضي الله عنه .

27- من مجمل أحاديث الوقف نخلص إلى أنّ كلّ وقف صدقة جارية، وليس كل صدقة جارية وقْفاً، فالوقف ما حبس لأصله وسبلت منفعته، أما الصدقة الجارية قد تكون علماً منشوراً، أو ولداً صالحاً فتلك من أعمال الصدقة الجارية وليست أوقافاً.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك