رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 28 يناير، 2018 0 تعليق

الوقف في الحياة العلمية

 كانت (اقرأ) هي الكلمة الافتتاحيّة للرسالة الإلهيّة الخاتمة التي حملتها هذه الأمّة الإسلاميّة وآمنت بها، ودعت إليها الخلق أجمعين، منذ فجر الإسلام إلى هذا اليوم، ودلالة هذه الافتتاحيّة ظاهرة على أنّ العلم والرقيّ المعرفيّ هو جوهر هذه الحضارة الإسلاميّة وروحها.

     ولا يحتاج الإنسان إلى تكلف كثير لكي يتصوّر حالة التخلّف العقليّ والأخلاقيّ التي كانت عليها الإنسانية قبل الإسلام، لا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذا ما قورن الحال بالقيم الحضاريّة والعلميّة والأخلاقيّة التي أضاء بها الإسلام مناحي الحياة الإنسانيّة كافّة، مع الإقرار بأنّ في العرب قبل الإسلام بقايا من فطرة حسنة، وسجايا كريمة، وكذلك في الأمم الأخرى قبل الإسلام وبمحاولات عدة لبعث مشاريع حضارية، لكن الكمال لله وحده، ولدينه فقط.

بناء الحضارات

     ولأهميّة العلم في بناء الحضارات وتقوية شوكة الأمّة، وكونه مفتاح النهضة، والترياق الشافي -بإذن الله- من التخلّف، فقد اتجهت الأوقاف الإسلاميّة على مرّ العصور إلى رعاية العلم والتعليم على نحو يصعب حصر أنواعه أو الإحاطة بها، فضلاً عن توثيقه كلِّه وإحصائه، نقول هذا دون مبالغة ولا تهويل.

     ساهم الوقف في بناء حصانة فكريّة متينة في المجتمعات الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي؛ فكان المسجد هو النواة الأولى لحلقات العلم، وتبع ذلك إقامة الكتاتيب، والمدارس، وعيّن المدرسون، وأُنفق على الطلبة، ووُفرت مصادر العلم كلها وأدواته في المدارس والرُّبَط والكتاتيب وغيرها.

الجانب الأخلاقي والسلوكي

     فتعزز من خلال مؤسسات وقف الجانب الأخلاقي والسلوكي في المجتمع، وجُففت منابع الانحراف، وعولجت السلوكيات والممارسات الخطأ، والمشكلات الاجتماعية الطارئة، وانتشرت القيم والفضائل، وواجه المجتمع الإسلامي النّزعات الهدّامة والفرق الباطنية، وقوّم أفكار أبنائه، وحفظ العقيدة الإسلامية، ونشر تعاليم الإسلام النقية في عدد كبير من الدول والأمصار.

     وقد ساهم فيه الملوك والحكام، والتجار والأغنياء، والرجال والنساء، والشيوخ والعلماء، والحر والمعتوق، وفي كل المجالات من مساجد ومدارس ومستشفيات، وآبار وأسبلة، ومكتبات وفنادق، وحمامات وتكايا وأسواق وغيرها الكثير؛ ذلك كله جعل المؤسسة الوقفية عبر التاريخ الإسلامي، أغنى المؤسسات وأثراها، وأكثرها دواماً واستمرارًا، وفي مقدمتها المؤسسات التعليمية.

مفخرة للعلم وطلابه

     وفتح المجال للتعليم لأبناء المجتمع بأطيافه ومستوياته كلها؛ حيث ساهم في تعليم ابن الفقير وابن الوزير، بل اهتم بابن الفقير إن كان ذكياً بارعاً في حفظه وتحصيله حتى غدا بعضاً منهم علماء للأمة جمعاء .

     فالوقف الإسلامي مفخرة للعلم وطلابه؛ حيث أُنشئت من أمواله بيوتٌ لسكنى الطلبة، امتازت بالجودة والرقي، وساعدت طلبة العلم على الانقطاع للعلم والتفرغ للتحصيل، مع راحة البال في أمر المعيشة؛ حيث وفر التعليم المجاني للفقراء، وحفظ العلم، وحفظ كرامة العلماء وطلابهم، ومن إيرادات الوقف دفعت مرتبات المدرسين، ومكافآت الطلاب، فضلاً عن المسكن والمطعم والملبس والمعالجة الطبية، وتوفير الكتب والأقلام والأوراق.

     فلله دره، كم من الفتن تناوبت علي أوطاننا، وكم من الهزات والكربات نالت بلادنا، وكم كاد الكائدون لتدمير كيان أمتنا، لكن التعليم فيها بقى مستقراً مستمراً لم يعش انهياراً ولا إفلاساً، كأن تلك الفتن لم تقع في الواقع الذي كان الوقف فيه!! والفضل -بعد الله في ذلك- للوقف الإسلامي الذي كان له الأثر البالغ في بقائه واستمراره أحقاباً وقروناً وفي انتظام الحياة العلمية والدراسية في مدارس الإسلام وجامعاته وكلياته .

جمع الكثير مما تفرق في غيره

     ومما تميز الوقف عن غيره من ضروب المبرات والخيرات، أن جمع الكثير مما تفرق في غيره؛ فله من المميزات الخيرية مالا يحصل لغيره، وقد أدى الوقف في مجال التعليم دوراً  كبيراً من بناء المدارس والمرافق والأوقاف التي تضمن الصرف علي تشغيلها، والإنفاق على العلماء والمتعلمين، وهذا ما تؤديه ثلاث وزارات مجتمعة في أيامنا : وزارة التربية ووزارة التعليم العالي، ووزارة الثقافة . 

     وقد حرر الوقف العلماء من حبس المكان، ومكنهم من الانتقال في أرجاء العالم الإسلامي ليمارسوا وظائفهم في التعليم والتأليف، حتى إن كثيرًا منهم ولدوا في بلد، وتعلموا في آخر، وعملوا في ثالث وألفوا في رابع، وقد يتوفاهم الله -عز وجل- في بلد آخر .

الداعم الأساس لجيوش الدعوة

   وكان الوقف - بمؤسساته وريعه وصرفه على الدعاة وطلبة العلم - الداعم الأساس لجيوش الدعوة التي كانت تلي جيوش الفتح ، لنشر الإسلام وتعاليمه، ونشر الدين بين المسلمين الجدد، ونسخ كتاب الله -تعالى- وتوفيره بين المسلمين، وكذلك الكتب الإسلامية في شتى العلوم، والعلماء الذين رعتهم الأوقاف سيرهم مسطرة في صفحات التأريخ؛ حيث اندهش ابن جُبير -الرحالة الأندلسي-؛ مما رأى في المشرق من كثرة المدارس والغلات الوافرة التي تغل أوقافها؛ فدعا المغاربة أن يرحلوا للمشرق لتلقي العلم؛ ومما قاله في هذا: «وتكثر الأوقاف على طلاب العلم في البلاد المشرقية كلها ، ولاسيما دمشق؛ فمن شاء الفَلاَح من أبناء مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد؛ فيجد الأمور المعينة على طلب العلم كثيرة، وأولها فراغ البال من أمر المعيشة».

القضاء على الأمية

      لذلك يعد ما قام به الوقف في العصور السابقة دليلاً ساطعاً على نجاح مؤسساته في القضاء على الأمية؛ فقد شهدت بلاد الأندلس حركة علمية نشيطة من المكتبات والمدارس، واحتفل أهل قرطبة بتشييع آخر أمي في القرن التاسع عشر، بل وجذبت قرطبة إليها في أوج ازدهارها آلافاً من اليهود والمسيحيين، ويذكر أن الطلبة من كل أنحاء الدنيا تدفقوا على بلاد الأندلس وعلى قرطبة ليتعلموا منها، ولاسيما أيام حكم الأمويين بين القرنين الثامن والحادي عشر .

      ولا يتغير حال أمتنا إلا بالرجوع إلى أسباب عزهم بتمسكهم بشريعتهم الإسلامية واهتمامهم بالعلم ومؤسساته، وتوفير الاحتياجات لطلبة العلم، وتسهيل أمورهم، ليتفرغوا للعلم، تحصيلاً وتحسيناً وإبداعا .

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك