رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 28 يناير، 2025 0 تعليق

الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية

  • حينما يصبح الوقف جزءًا من ثقافة المجتمع وحياته ويتغلغل تأثيره في مظاهر الحياة كافّة سيحظي بلا شك بالإبداع والابتكار والتجديد
  • مثّلت الأوقاف في الدرجة الأولى إحدى الدعامات الكبرى للنهوض بالمجتمع من خلال رعاية أفراده وتوفير مختلف الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية لهم
  • للوقف دور كبير في تحقيق خيرية الأمة فهو من خصائص المسلمين ومن الإحسان المستمر فبالوقف نشأت المساجد ومعاهد للتعليم من الكُتّاب إلى الجامعة

امتاز الوقف الإسلامي بإبداعاته، وما من عصر من العصور الإسلامية إلا عُرف بأوقاف تفي بحاجات وضرورات ذلك العصر، بل ببعض تحسينيّاته ومظاهر رفاهيته أحياناً، أوقاف قدمت رسالتها الحضارية، وبلغت في الوفاء بحاجات الفرد والمجتمع مبلغًا لم يعرف له مثيل بين الأمم والشعوب، وعملت على إسعاد البشر بالحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلومهم الشريفة، وكرامتهم الإنسانيّة، وسموّ أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم.

     وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالإنسان، وبالعمل الصالح وفعل الخيرات، وأتاحت للناس ذلك، فكانت القيم الحضارية النابعة منها معدنًا للفضائل، وسببًا للرحمة التي نشأت في القلوب باعتبارها واحدة من ضروريّات الإيمان، فولّدت رغبةً جامحة في نفوس المؤمنين في ألا ينقطع عملهم بعد الموت، فجعلوا يقفون أموالهم كلها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإيواء الغريب، وعلاج المريض، وتعليم الجاهل، ودفن الميت، وكفالة اليتيم، وإعانة المحروم، وعلى كل غرض إنساني شريف، بل لقد أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان!

     فكان من ثمرات ذلك سد الحاجات، وتيسير القيام بالواجبات، وازدهار العلم، وعمران المدارس، ونهوض العلوم الإسلاميّة في شتى أبوابها ومجالاتها الدينيّة والدنيويّة.

أوسع أبواب الفقه اجتهادًا

     وباب الوقف من أوسع أبواب الفقه اجتهادًا، ومن أكثرها حيويّة وتجدّدًا عبر التاريخ، فهو باب في حقيقته يبحث الممارسة المنضبطة للعمل الخيريّ، ليعبّر عن الوعي العالي عند شرائح عريضة من المجتمع الإسلامي، نهضت لتعالج بعض أشكال القصور الاجتماعي التي قد يقصّر فيها مجموع الناس أحيانًا، كما قد تعاني من التقصير الحكومي وضعف الرعاية الرسميّة لها أحياناً أخرى.

الدور الحضاري للوقف الإسلامي

       من معالم الحضارة الإسلاميّة المميّزة لها، إرساؤها أصول العمل المؤسسي ووضعها لنواته وضعاً محكماً متيناً، هذا ما يلحظه المتتبّع لتاريخ الأمة الإسلاميّة، إذ يبهره النّظام المؤسسيّ المختصّ بكلّ مجال من المجالات الحياتيّة كافّة، تعبّديّة روحانيّة، أو سياسيّة وجهاديّة وعسكريّة، أو صحيّة، أو تعليميّة، مع توفير ما يسندها من الدعم الماليّ اللازم لها جميعاً، ويؤمّن لها مواردها، وقد تمثّل ذلك في الأوقاف، تلك الصفحة التي هي من أشدّ صفحات حضارتنا الإسلاميّة إشراقاً.

        مثّلت الأوقاف في الدرجة الأولى إحدى الدعامات الكبرى للنهوض بالمجتمع من خلال رعاية أفراده، وتوفير مختلف الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية لهم، فقد مثّلت وعي القادرين من أفراد المجتمع لطبيعة مسؤولياتهم الدينيّة والأخلاقيّة، وضرورة تحمّلهم إلى جانب الدولة جزءًا من المسؤوليّات.

     وشاركت الدّولة في تنظيم هذه العمليّة، فتحمّلت نصيبها من المسؤوليّة، فقد ارتبط كل وقف بحجة شرعية توضح أركانه والغرض منه وحجمه وكيفية الاستفادة من ريعه، والصفة المنضبطة للمستفيدين، وعدد الموظفين والخدم القائمين على رعاية شؤونه، وغير ذلك من الجوانب التي توضح الإطار العام لنظام الوقف، وتوفّر كل المعلومات اللازمة لحفظ الحقوق والتّقاضي عليها، في حال طروء النسيان، أو نشوب النزاع والخلاف وظهور الدّعاوى.

تحقيق خيرية الأمة

        وللوقف دور كبير في تحقيق خيرية الأمة، فهو من خصائص المسلمين، ومن الإحسان المستمر، فبالوقف نشأت المساجد، ومعاهد للتعليم من الكُتّاب إلى المدارس الجامعة، وبه تأسست مستشفيات للعلاج المجاني، وصيدليات لتقديم الدواء بلا مقابل، وشُيّدت في المدن وحولها قلاع وحصون لتوفير الأمن، والتكايا والملاجئ لإيواء من لا مأوى لهم، وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم، وتعليم من هو في سن التعليم منهم، كما شُيّدت في القرى مضايف لاستقبال الغرباء، ومنازل لإقامة عابري السبيل والمسافرين، وفي المدن والقرى -بدرجة أقل- بُنيت أسبلة مياه الشرب، ومقابر الصدقة، ووزعت خيرات على الفقراء والمساكين والأيتام وذوي الخصاصة، لإعاشتهم وللتوسعة عليهم في مناسباتهم الخاصة، وفي المواسم والأعياد، وزُوّد المجاهدون بالمؤن، والصائمون بالفطور والسحور، وحجاج بيت الله الحرام بما يبلّغهم مقصدهم، ويساعدهم على قضاء مناسكهم.

دور الأوقاف في التعليم

       وكان للأوقاف دور هام في مقوّم أساس من مقوّمات الحضارة ألا وهو التعليم، سواء في الكتاتيب أو المدارس، فالأوقاف هي التي ثبّتت أركان المدرسة، ودعمت نظامها، ومكّنتها من القيام برسالتها، «وكان الريع الذي تغلّه الأعيان الموقوفة على المدرسة شهريا أو سنويا، نقداً أو عيناً، هو الضمان لاستمرار العمل بالمدرسة، حيث تدفع منه مرتبات أرباب الوظائف بالمدرسة والطلبة حسب شرط الواقف».

        والمدقق في تاريخ الحضارة الإسلامية يجد أنها من حيث بناؤها النظامي قد نهضت على ركيزتين، وبُنِيَت على قيمتَيْن، وهما: العلم والعدل، وقد مثّلتهما في حقبة ممتدة من التاريخ الإسلامي، المدارس ومؤسسة القضاء، وقد انتفعت هاتان المؤسستان أيّما انتفاع بالأوقاف التي خُصّصت لهما، تحقيقاً للاستقلال والنزاهة والكرامة.

        لقد ظل الوقف قيد التطبيق لمئات السنين، وبقي نظاما قويا وثابتا لإدارة الثروات، نظراً لسهولة تطبيقه ومرونة المقاصد الشرعية التي ينطلق منها ويعمل في خدمتها، ورغم الاختلافات الجغرافية والسكانية داخل الدول الإسلامية إلا أن نظام الوقف ظل قابلاً للتطبيق دون أية عقبات في مختلف مناطق العالم الإسلامي، وحتى في غير بلدان العالم الإسلامي، فأندونيسيا والهند مثلاً يختلفان اختلافاً جذريا من حيث الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل منهما، بل وفي عاداتهما الخاصة في توزيع الثروات بين العائلات، إلا أن نظام الوقف جرى تطبيقه في كل منهما دون عوائق كبيرة.

      وبقي هذا النظام شديد الارتباط بمختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى جانب ارتباطه الوثيق بالجوانب الروحية والأخلاقية، لذلك فالوقف الإسلامي يعد أحد أهم النظم التي أسهمت في تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية؛ لما فيه من حفظ للضرورات الخمس وفي مقدمتها حفظ الدين، بإقامة المساجد، وحفظها، ورعايتها، وبحفظ الهوية الإسلامية.

      وحينما يصبح الوقف جزءًا من ثقافة المجتمع وحياته، ويتغلغل تأثيره في مظاهر الحياة كافّة، سيحظي -بلا شك- بالإبداع والابتكار والتجديد، وحينما يكون الوقف مجالاً للتنافس في الخيرات وتوفير الاحتياجات لفئات المجتمع، فإننا سنقرأ بدائع وقفية سطرها لنا التاريخ بكل فخر واعتزاز.

توظيف القدرات والطاقات

      وحينما يتحقق العدل في الأمة، ستوظف يقينًا القدرات والطاقات لتُسهم في تحقيق الحياة الكريمة للمجتمع بكل مكوناته، وحينما تتشارك الجهود من قبل الدولة والمجتمع، سنرى أوقافاً تُسهم في تنمية الأوطان، وحينما يأمن الواقف على المال الذي أوقفه، ويضمن حفظه واستمراره، فإننا سنرى أوقافاً جديدة تخفف الأعباء عن الدولة وتخدم المجتمع، وحينما تشيع ثقافة الوقف وبث روح العمل من أجله، ومن أجل رعايته وضمان استمراره، فإننا سنجد إبداعا في اختيار مجاله، وتسطير شروطه، وتحديد وجهة ريعه، واختيار نظارته، وترشيد إدارته، وضمان بقائه واستمراره، وسبل حمايته، ونعيش آثاره ومخرجاته الإيجابية المثمرة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X