رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 25 أغسطس، 2020 0 تعليق

الوعي الديني أهميته ومقدماته وطريق تحصيله


قال الله -تعالى-: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} سورة الحاقة، نريد أن نقف من خلال هذا المقال على حقائق الوعي وأسبابه وطريقة تحصيله من خلال الآية القرآنية.

عبرة وعظة ونعمة

- الحقيقة الأولى: أن إنقاذ نوح -عليه السلام- وأصحابه الذين آمنوا معه، وحملهم في السفينة وهي تجري بهم بسلام، كل ذلك عبرة وعظة ونعمة؛ فالسياق في الآية للامتنان على الناس بهذه النعمة العظيمة.

أمور ثلاثة مهمة

- الحقيقة الثانية: أن الآية جاءت بأمور ثلاثة مهمة، وهي (الاعتبار بالآية، والتذكرة، والوعي)، فالاعتبار بالآية، وتذكر العلوم النافعة، ووعي المقالة وفهم مقاصد الآية، وانظر إلى ألفاظ الجارية والتذكرة والأذن الواعية كيف جاءت في نسق واحد، فلا تجري الأمور على هذا النسق الحكيم إلا بأن يتعظ العبد بالآية، ويستشعر وجود النعمة والمنة، ولا ينفك عن التذكرة ويأخذ بأسباب جعل الأذن حافظة وواعية.

تكوين الوعي العلمي

- الحقيقة الثالثة: أن تكوين الوعي العلمي الديني الصحيح لا يتأتى إلا بالتدريج، فيبدأ من التفكر في الآيات ثم التذكر ثم الوعي، لهذا لا يتصور أن يحصل الوعي من مجرد السماع؛ فهناك مقدمات له، ولا فائدة من مجرد التفكر المجرد الذي لا ينتهي بالعبد إلى الانتفاع بالذكرى، ولا فائدة -كذلك- من تفكّر لا ينتهي بالعبد إلى تذكّر ولا نرجو الثمرة الكثيرة اليانعة من ذكرى لا تنتهي إلى الأذن الواعية، لهذا كان الارتباطُ وثيقا بين التفكر والتذكر والوعي؛ (فكرة، ثم تذكرة، ثم أذن واعية، والنتيجة هي: إنابة)؛ كما قال -تعالى-: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}.

الوعي ليس رديف الثقافة

     لهذا لا يظن ظان أن الوعي يحصل من غير مقدمات، حتى اعتقدوا أن الوعي هو رديف الثقافة الإسلامية، أو هو قرين التصورات الفكرية العامة، فأخذوا لفظه من غير فهم لمعانيه، واستعملوه في غير مضامينه؛ لهذا كان التعريف بمقدماته وأسبابه ضروريا؛ لأننا إذا ظفرنا به وانتهينا إليه فقد انتهينا إلى مفتاح الانتفاع بالنصوص والآيات المتلوة والمشاهدة، وحينئذ يكون قد ساهمت الأعضاء جميعها بهذا الانتفاع؛ فانتفع العبد الواعي بالآيات والراعي لحرمات الله بالموعظة وبالعبرة وبالفكرة وبالذكرى وبالأذن الحافظة حتى يصل ذلك الانتفاع إلى القلب؛ لتستقر فيه جذور الوعي والخشية والإنابة؛ كما قال -تعالى- في سورة (ق): {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33)}. وانطر يا رعاك الله إلى الألفاظ التي تكوّن مقدمات الوعي الشامل وأركانه (أواب، حفيظ، الخشية التي هي قرينة التذكر، والإنابة)؛ وحيث تلتقي الخشية بالتذكر فاعلم أن القصد هو الوصول بالعبد إلى الإنابة التامة: {سيذكر من يخشى}، وقال -تعالى-: {وما يتذكر إلا من ينيب}.

تقديم التذكرة على الوعي

- الحقيقة الرابعة: وهنا حقيقة مهمة أن تقديم التذكرة على الوعي؛ لبيان أن عدم التذكرة الذي يتمثل بالعمى والغفلة يكون مانعا أصيلا من موانع الوعي؛ فمن كان غافلا عن النظر في الآيات العلوية والسفلية والشرعية والكونية فلا يتأهل للوعي التام الذي يريده منا الخطاب القرآني، فمن لم ينزل في منزلة الذكرى لا يطمع أن تعي أذنه فضلا عن قلبه حقائق الشرع ومقاصده؛ لهذا كانت الغفلة من موانع إدراك المقصود؛ كما قال -تعالى- في سورة الكهف: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنهمْ فِي غِطَاء عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}؛ فنفى عنهم التذكّر ونفى عنهم سماع الأذن الواعية لا سماع الأذن الجارحة؛ فهم يسمعون ولكنهم لايفقهون لتعطل آذانهم عن القيام بوظيفتها المعنوية في الوعي.

ثلاثيات مهمة

- الحقيقة الخامسة: وإذا كان الوعي مسبوقا بثلاثية (العبرة والفكرة والذكرى) فإن الوعي في نفسه بوصفه حقيقة شرعية أيضاً يشتمل على ثلاثيات مهمة، بها يتكون مفهوم الوعي الشامل:

الثلاثية الأولى

     أن مفهوم الوعي في الاصطلاح الشرعي يشتمل على عناصر ثلاثة لا يتم الوعي إلا بها: الاستماع للحق، وفهم الخطاب، وحفظ المعنى في القلب؛ وبهذه العناصر يتكون الوعي وتظهر ثماره؛ لهذا نقل الطبري في تفسيره عن قتادة -رحمه الله تعالى- أنه قال في معنى الأذن الواعية، قال: «حافظة عقلت عن الله ما سمعت»؛ فأثبت معنى الحفظ والفهم والسماع، وقال ابن جزي المتوفى (٧٤١ هـ) في تفسيره التسهيل: «والأذن الواعية: هي التي تفهم ما تسمع وتحفظه، يقال وعيت العلم: إذا حصلته)، لهذا لا يتصور وجود وعي تام من غير الاستعداد لسماع الحق، وعقل الكلام وفهمه فهما صحيحا، وحفظه في النفس ليكون بمثابة القيم التي تستقر في عقل الإنسان وقلبه».

الثلاثية الثانية

     أن الأذن الواعية لها سماعات ثلاثة: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع الإجابة، فالأذن تسمع سماع إدراك وعلم، والقلب يسمع سماع انتفاع وفهم، وسماع الإجابة هو سماعة طاعة وانقياد؛ لمرتبة السماع كما يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في المدارج: «ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب، وترتب على هذا السماع سماع القبول»؛ كما قال -تعالى-: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}، وهذا السماع التام الذي اشتمل على حقيقة الوعي قد أثمر لهم الإيمان الكامل.

الثلاثية الثالثة

     ولأن الوعي وسيلة إلى كل خير، وأن قليلا منه مع صدق النية قد يكون سببا للفضل الوفير والخير الكثير؛ احتاج المقام التذكير بمقاصد الوعي وثمراته التي تدور على أمور ثلاثة مهمة كلها مرتبطة بالقلب، وهي: انتفاع القلب بالسماع والموعظة، وحفظ القلب للتذكرة والعظة، ووصول الفائدة إلى القلب في غاية السهولة حتى يصل العلم إلى القلب بلا واسطة؛ فكأن القلب هو الذي يسمع، أو أن يقال: إن القلب يسمع بالأذن، ووفقا لهذه المقاصد والثمار المتحصلة من الوعي، يمكن أن تعرف الأذن الواعية بأنها: «هي الأذن السامعة التي تنتفع بسماعها، أو هي الأذن الحافظة التي تنتفع بحفظها»، وهذا المعنى هو السبب المهم الذي جعل أصحاب النبي  صلى الله عليه وسلم ينتفعون بكل موعظة ويسمعون كل نصيحة، ويحفظون كل فائدة كما قال -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، وقدم القلب هنا على السمع من باب تقديم الغاية على الوسيلة؛ إذ وعي الأذن وسيلة إلى يقظة القلب؛ فعندما تكون القلوب قاسية والنفوس ضعيفة والأفئدة خاوية اعلم أن الآذان لم تكن واعية؛ فغياب الوعي أزمة عظيمة وفاجعة كبرى.

وقفات وفوائد تربوية

وبعد معرفة ثلاثيات الوعي في نفسه وأدواته ووسائله ومقاصده نشير إلى بعض الوقفات المهمة والفوائد التربوية من هذه الآية العظيمة:

- الوقفة الأولى: الوعي يؤثر على الباطن، والحفظ يختص بالظاهر، والأمة تحتاج إلى الحفظ الواعي لا إلى مجرد التلقين الصوتي لأن حقيقة الوعي في حفظ القلب للمعنى.

- الوقفة الثانية: لا يكمن صناعة الملكة الفقهية، أو تكوين الفهم الصحيح للدين والدنيا، أو أن يحفظ المسلم حقائق دينه في نفسه وعقله إلا بالوعي الذي نصّ عليه القرآن وجاءت السنة تحث عليه.

رسوخ علم السلف

- الوقفة الثالثة: إن رسوخ علم السلف في الشريعة وعلو كعبهم في فهم مقاصد الدين راجع إلى اتصافهم بالوعي في تلقي نصوص الوحي وتبليغها؛ كما قال جاء في الحديث الصحيح المتواتر: نضَّرَ الله عبدًا سَمِع مقالتي فوعاها، فبَلَّغها مَن لَم يَسْمعها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فِقْه لا فِقْهَ له»، فهذه ثلاث مراحل: السماع، والوعي، والتبليغ، وهذه الثلاثة وسيلة لغاية عظيمة، وهي (فرب حامل فقه)، لهذا لما انتقص في العصور المتأخرة (الوعي)، وصار الأمر يدور فقط على الحفظ والسماع؛ انتقص الفقه في حقيقته الشرعية، وضعف التبليغ في حقيقته التكليفية.

مقومات الوعي الشامل

- الوقفة الرابعة: من مقومات الوعي الشامل: السكوت لمصلحة، والكلام بحكمة؛ لأن الهدف من الوعي هو: صناعة فقيه أو تكوين التصور الصحيح، أو بناء العقل السليم، أو تدبر القلب للذكر الحكيم؛ لهذا كانت منظومة الوعي في الإنسان في غاية الدقة حتى قيل: «عمل اللسان بالنطق يضعف عمل القلب بالوعي»؛ لأن القلب لا يتفرغ للوعي إلا بسكون اللسان واستماع الآذان؛ كما قال -تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

الأزمة الحقيقة

- الوقفة الخامسة: الأزمة الحقيقة في الأمة هي أزمة وعي لا أزمة تلقٍّ، فالنصوص محفوظة والآثار مشهورة، والآيات متلوة مسموعة، والأخبار مروية بعنعنة الرواية وأسانيد الحكاية، لكن الأشكال في الحاجة إلى الآذان الواعية، والأذهان الحاضرة، والقلوب اللينة، والعقول النيّرة، والنيات الصادقة، لهذا فالمطلوب هو الوعي الشرعي القرآني، وليس مجرد الشعور العاطفي الديني الذي لا يتحصل إلا بالآذان الصاغية والقلوب الواعية.

  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك