رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 6 يناير، 2014 0 تعليق

الوسطية في الموقف من المستجدات بين الجمود والجحود

اختلفت بعض الآراء حول كثير من المستجدات من اكتشافات ووسائل علمية واجتماعية...الخ، وأهل الوسط وسط بين الإفراط والتفريط في ذلك وغيره، وقد سُئلت من (صحيفة الجمهور) حول هذا الأمر، فرأيت الاكتفاء في هذا المقام بما ورد في السؤال والجواب عن ذلك، والعلم عند الله تعالى:

     الفكر السلفي متهم بالجمود، مع أن لكل عصر مشكلاته الخاصة به، التي لابد أن تعالج بشروط العصر وظروفه.. حتى إن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفتي في مسألة، وفي العام الآخر يفتي بغيرها، فيعاتب على ذلك، فيرد قائلاً: ذلك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم كيف ينظر أبو الحسن إلى ذلك؟

     اتهام السلفية بالجمود من التهم الباطلة أيضاً، فالسلفية تعني العمل بما كان عليه السلف الصالح من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقواعد الأئمة المتفق عليها، أو الراجحة نقلا أو عقلا، وأول من يُقتدى به في هذه الأمة هو رسول الله[ وصحابته الكرام رضي الله عنهم جميعاً، ثم من سلك مسلكهم من فقهاء الأمة وأئمة المذاهب والأمصار، ولو كان منهج هؤلاء جامداً ما فتحوا الفتوحات، ولا مصَّروا الأمصار، ولا خضعت لهم ممالك كسرى وقيصر، ولا دخلت بهم الأمم في دين الله أفواجاً، ولو كانوا جامدين ما قامت لهم قائمة، ولا بقيت لهم بقية عبر القرون المليئة بالمتغيرات، فإن المدنيَّة وَّلادة، والحضارة متجددة، والمستجدات لا يعدّها عادٌّ، والرسولصلى الله عليه وسلم آخر الرسل، فلا نبي بعده، وشريعته آخر الشرائع، وهي للناس كلهم، كما يقول تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف: 158)، ويقول تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}(الأنعام: 19)، ويقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: «وكل نبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة «فكيف يُخاطب بشريعته صلى الله عليه وسلم من يأتي بعده وقد امتلأ عصره بأمور لم تكن موجودة في زمن النبوة إذا كانت الشريعة جامدة؟! فلو كانت الشريعة غير صالحة لكل زمان ومكان؛ لما خوطب بها من يأتي في زمن المستجدات والاكتشافات.

     ومن أجل ذلك احتاج فقهاء الإٍسلام إلى العمل بالقياس، وهو إلحاق مسكوت عنه - وهو من المستجدات - بمنصوص عليه لاشتراكهما في العلة، فإن الشريعة منزهة عن الجمع بين المتناقضين، والتفرقة بين المتماثلين، وكذلك احتاج الفقهاء إلى العمل بالمصالح المرسلة، وهي أمور مستجدة، فيها مصلحة للأمة، ولم يرد فيها نص بالمنع، وجاءت الشريعة بقواعد تحفظ لها مرونتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فمن ذلك: المشقة تجلب التيسير، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، والأمر إذا ضاق اتسع، أو الضرورات تبيح المحظورات، والعمل بالعرف ما لم يخالف نصًّا، والأصل في الأمور العادية أو الدنيوية الإباحة....الخ.

     فخلاصة النظرة الشرعية المنضَبطة للمستجدات: أن المستجدات لا تخرج عن أربع حالات: إما أن تندرج تحت نص بالقبول؛ فهذه تُقبل وجوباً أو استحباباً، وإما أن تندرج تحت نص بالمنع؛ فهذه تُرد، والله عز و جل لم يحرم شيئاً إلا إذا كانت مفسدته خالصة أو راجحة، وإما أن يكون الأمر المستجد خيراً من جهة، وشراً من جهة أخرى، فيعمل هنا بالموازنة بين المصالح والمفاسد بنظر علمي متجرد، فإن كانت المصلحة أرجح قُبِلَ، وأُلْحِق بالحالة الأولى، وإن كانت المفسدة أرجح رُدَّ، وأُلْحِق بالحالة الثانية، وأما الحالة الرابعة: إن كان مسكوتاً عنه، ولم يرد فيه بعينه نص بالمنع أو القبول؛ فالأصل فيه الإباحة، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(البقرة: 29)، إلا إذا كان العمل به سيفضي إلى حرام؛ فذاك أمر آخر، ويُحكم عليه بما سيؤول الأمر إليه.

     وقد تجلى العمل بهذه القواعد وبهذه النظرة العلمية المنضبطة في زمن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - كما في تدوين الدواوين، واتخاذ سجلات للجيوش، وعمل السجون، وغير ذلك مما لم يكن موجودا من قبل، وفي زمن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - اتخذ جهازاً للشرطة، ولم يكن هذا الجهاز موجوداً من قبل، وهكذا كلما جدّ جديد نظر فيه العلماء: هل هو مصادم للشرع، أم لا؟ فإن كان مصادماً للشرع فهو حرام مردود، والله أعلم بمصلحة عباده من أنفسهم، وإن كان موافقا لأصل شرعي ألحقوه به، وحكموا عليه بالحكم الذي يليق به، وعلى ذلك فكل جديد - بهذه النظرة المنضبطة - لا بد أن يُلْحَق بحكم من أحكام الشرع الخمسة: (الوجوب - أو الاستحباب - أو الإباحة - أو الكراهة - أو التحريم) فأي جمود في ذلك؟! بعض الناس ينظر إلى غيره إذا لم يكن منفلتا ضائعا مثله فهو جامد متحجر، ونسي أن هناك مرحلة بين الجمود والجحود, وهي ما سبق تفصيله.

     وما زال علماء الإسلام ينظرون في كل جديد بهذه النظرة الشرعية المنضبطة: فلا جمود ولا انفلات وضياع للمرجعية، ولذلك فالعلماء يؤسسون الجامعات، والمعاهد، والمدارس، أو يحثون الطلاب على الاستفادة منها، والتدرج فيها إلى أعلى المراتب، ولم يكن تحصيل العلم بهذه الصورة موجوداً من قبل، وكذا يرون الأخذ بتنوع الخطاب الدعوي حسب فهم المخاطب وإدراكه، ويرون تعدد الوسائل الدعوية ما لم تكن الوسيلة محرمة، فهم وسط بين الجامدين المشككين المتشائمين من كل جديد، وبين المنفلتين المتبعين لأهوائهم، والذائبين في الثقافات التي لا تقف عند حد شرعي، ويرون أن الغاية تبرر الوسيلة , أو أنهم بلسان حالهم يرون أنهم أعلم من الله بما في عصرهم من مستجدات، تعالى الله عما يظنون به و بشرعه علوا كبيراً.

     فالعلماء لهم مرجعية ربانية محفوظة، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: 9)، ويعلمون أن الله استخلف عباده في الأرض ليعمروها، وأن ذلك لايكون بالجمود والانكماش والتشكيك في كل جديد، ولا بالانفلات والاندثار، بل لا يكون ذلك إلا بالاستفادة من علم البر والفاجر والمسلم والكافر ما لم يخالف نصًّا شرعيا، فإن صادم أمراً معلوما من الدين بالضرورة؛ فإنهم يرمون به وراء النجم، وإن احمّرت أنوف المميعين، فالحق أحق أن يتبع، فماذا بعد الحق إلا الضلال؛ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب: 36)، وإن كان الأمر خليطاً من خير وشر، ومصلحة ومفسدة؛ نظروا فيما هو الراجح من الأمرين: فإن كان الخير أرجح؛عملوا به، وإن كان الشر أرجح؛ تركوه، وليس الفقيه الذي يعرف الخير والشر فقط، إنما الفقيه الذي يعرف خير الخيرين فيتبعه، وشر الشرين فيجتنبه، وهذه قاعدة نفيسة جدا، ولاسيما في زمن اشتباه الأمور وامتزاجها عند طول العهد بزمن النبوة، وذهاب العلماء، وتصدُّر الجهلة، والله المستعان.

     هذا، وقد ورد في السؤال عن عمر الفاروق - رضي الله عنه - ما يدل على العمل بالحق بحسب ما ظهر من أدلة وإن خالف فتوى سابقة، فأين الجمود إذاً؟! وعمر نفسه هو الذي كتب لأبي موسى الأشعري في كتابه المشهور عند العلماء في مسائل في القضاء، فقال: «ولا يمنعنك قضاء قضيت به ثم ظهر لك الحق، أن تقضي بخلافه، فإن الحق قديم» فالحق هو المقدم على غيره، والحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها أخذها.

    هذا هو المنهج السلفي الصحيح، فإن وجد أفراد - كباراً كانوا أو صغارا - لا يفقهون هذا، ويجعلون كل جديد بدعة وضلالة، فهذا من قصور فهمهم للمنهج الصحيح، لامن جمود ما يسمى بـ (الفكر السلفي) فالمنهج السلفي هو أصلح المناهج لحياة البشر؛ لأن مرجعيته ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  والصحابة، وما فهمه من ذلك أئمة المذاهب والأمصار، وهو سبيل المؤمنين، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(النساء: 115)، ويقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(البقرة: 137)، فهذا منهج منضبط: مرجعيته ربانية، وقادته أئمة الدنيا من العلماء والعُبَّاد والمصلحين، وثوابته لا تتغير عبر القرون المتطاولة، إنما يقع التغير في الأمور الاجتهادية، وخَلَفُه ينصرون أصول سلفهم، ويترحمون عليهم، ويعرفون فضلهم وسبْقهم، أما غيره من المناهج فهو مجموع استحسانات بشرية، والخلف منهم ينقضون ما كان عليه سلفهم، ولايزال بهم تطوير مذهبهم حتى يخرجوا عن أصوله وثوابته، بل ربما قالوا بعكس ما كان عليه سلفهم، وربما كفّروهم ولعنوهم، وكتب العقائد والتاريخ حافلة بذلك، فما هو قول أوائل الخوارج وما هو قول خلفهم الآن؟ وما هو قول أوائل الشيعة، وماذا وصل إليه خلفهم في العصور المتأخرة؟ وكذلك بقية الفرق، وما كان عند هذه الفرق وغيرها من خير فهو موجود في المنهج السلفي الناضج الشامل، فإن الحق لا يفوت أهل الحق بمجموعهم لا بأفرادهم.

     فالأمر إذاً لا يخلو من إفراط وتفريط، فهناك من يجمد حتى يُنَفِّر الناس عن الدين، ويضيع مصالح عظيمة على الأمة في دينها ودنياها، وقد أساء بعمله هذا إلى المنهج السلفي، وهو يظن أنه قد تمسك بالدين، والحق أنه قد ضيع مثل أو أكثر مما تمسك به، وهناك من يفر من الجمود، ويدعي التطوير والمرونة - لكن بلا ضوابط - فيجعل الدين تبعاً لهواه أو لهوى غيره، والحق وسط بين طرفين، كما سبق تفصيله.

     وليس من الإنصاف أن يحكم على المنهج السلفي كله بالجمود لجمود بعض من ينتسب إليه، وجمهور السلفيين على عكس ذلك، وعلماؤهم الكبار وكبار دعاتهم يحذرون من الجمود والانفلات جميعاً، وواقعهم خير دليل على الدوران مع النص، ومعاني الشريعة، ومقاصدها، وكلياتها، وليس الجمود على الظاهر ومجرد المباني، ومن المعلوم أن الظاهرية - ومن شابههم - لا يمثلون في الأمر قديما وحديثا شيئا يُذْكَر بجانب بقية العلماء والمذاهب الذين فقهوا الشريعة حق الفقه، ودخلوا بها في جميع مناحي الحياة، هذا موقفي من هذه القضية، والله الهادي إلى سواء السبيل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك