رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد بن حسن المعلم 27 أكتوبر، 2017 0 تعليق

الوسطية بين الحقيقة والادعاء


إننا نعيش في زمن تعمل فيه الدعايات والشعارات عملها الكبير، بل الخطير في صياغة وعي الأمم، وتكوين عقولها، وصياغتها حسب القوالب التي يريدها من يقف خلف تلك الدعايات والشعارات؛ ولذلك استغلت المصطلحات الصحيحة المحببة إلى النفوس، فوضعت في غير مواضعها ونسب إليها ما ليس منها، أو أخرج عنها بعض أسسها وأركانها، ثم سُوقت تلك المصطلحات مشوهة غير صادقة على ما وضعت له؛ ليخدع بها الناس، ويعتقدوا فيها ما هي بريئة منه، ومن أشهر تلك المصطلحات التي تسوق اليوم، ويدعيها من ليس من أهلها مصطلح (الوسطية).

     فالعلماني الملحد يتشدق بالوسطية ويزعم أنه من أهلها، وعميل المخابرات الأجنبية من شرقية وغربية ويهودية يصرخ بأعلى صوته لا حل لنزاعات العالم، وإزالة الكراهية من أوساط الناس، والقضاء على الحروب الطاحنة في كل مكان إلا بانتهاج الوسطية، ويزعم أنه ومن على شاكلته هم الأمة الوسط، والعقلاني المبهور بالحضارة الغربية وقيمها الزائغة، الساعي لتطويع الأمة لمفاهيمها، يعقد المؤتمرات ويقيم الندوات باسم الوسطية؛ لتمرير مبادئه ومبادئ أسياده باسمها.

الساعي وراء السراب

      والساعي وراء السراب الذي يهوِّن من شأن الباطل، ويقلل من شأن البدع وأهلها، ينادي باسم الوسطية، وبأنه لابد من تنازلات وحلول وسطية لنجمع الأمة عليها، والصوفي المبتدع الغالي في الشطح والشعوذة يحتكر الوسطية له ولإخوانه، ويصر أن من أنكر شطحه، وكذّب دجله وضلل عقائده المنحرفة أنه قد جانب الوسطية، وامتطى صهوة الوهابية الخارجية، وأنه مكفر مستبيح لأنفس مخالفيه المعصومة، ويأتي وراء ذلك من يعد الوسطية الغلو في التكفير واستباحة الأنفس والدماء المعصومة، وتبني العنف والإفساد طريقاً للتغيير وإقامة للجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام.

      كل هذه الفرق وغيرها تمجد الوسطية، وتزعم أنها خير من يمثلها، وأن من يتمسك بالإسلام الحق الذي قرره الكتاب والسنة وسار عليه الصحابة والقرون المفضلة والأئمة المتبوعون، أن ذلك غالٍ خارجٌ عن الوسطية.

المسلم الباحث عن الحق

     إن المسلم البسيط الباحث عن الحق، المحب لما يحبه الله ورسوله، الساعي لما فيه نجاته في الدنيا من الضلال وفي الآخرة من النكال، يقف حائرًا مبهوتًا لا يدري أين الحقيقة، وقد أرشدنا الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأحوال إلى الحل الصحيح، وإلى الميزان الذي نزن به تلك الدعاوى، والحكم الفصل بين أصحابها.

     قال الله -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، وقال -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فإنه من يعــش منكم فسيرى اخـتـلافـا كثيراً، فعـليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين عـضو عـليها بالـنـواجـذ، واياكم ومـحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (رواه أبو داود:4607، والترمذي:2676، وقال: حديث حسن صحيح).

الرجوع إلى الكتاب والسنة

      وعندما نستجيب لأمر ربنا وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجد أن الوسطية التي امتدحها الله -تعالى- في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} قد فسرت في القرآن والسنة، وفسرها السلف الصالح، وقد تواطأت عبارات المفسرين بأن المقصود بالوسط هنا هم «الخيار العدول الثابتون على الحق بين باطلي الغلو والجفاء»، وهم الصحابة الكرام قطعاً والتابعون لهم بإحسان، ومن تبعهم من أئمة المسلمين وعلمائهم وسائر من سار على منهجهم من المؤمنين.

تفسير القرآن للوسطية

     وقد فسر القرآن هذه الوسطية في آيات أخرى: فكون هذه الأمة خياراً يدل عليه قوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وكونها عدول فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن ذكر حديث الشهادة على الأمم قرأ قوله -تعالى-:

     {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال عدولاً، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} رواه البخاري، وأما تفسيرها بالثبات على الحق بين باطلي الغلو والجفاء، ففي قوله -تعالى-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال الإمام الطبري إمام مفسري أهل السنة: «وأرى أن الله -تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها».

الصحابة هم الأمة الوسط

      والصحابة الذين هم الأمة الوسط بدون نزاع من أحد ممن ينتسب إلى العلم، لهم منهجٌ واضح، وعقائد ثابتة معروفة، وعبادات تعلموها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسلوك وأخلاق، فمن نهج منهجهم واعتقد عقائدهم كما ثبت عنهم، لم يزد عليها ولم ينقص منها ولم ينحرف عنها، ولم يستحسن خلافها أو يتأولها بالتأويلات التي لا دليل عليها، وتعبد الله بعباداتهم، ولم يخترع لنفسه عبادات وشعائر لم يتعبدوا بها، ولم يتخذوها قربة، وتخلق بأخلاقهم وسلك سلوكهم، وفهم مراد الله ومراد رسوله كما فهموا فهو من أهل الوسطية ومن أهل الاعتدال، ومن انحرف عن شيء من ذلك في منهج أو عقيدة أو عبادة أو سلوك؛ فقد خرج عن الوسطية بمقدار انحرافه، وصار إما إلى طائفة أهل الغلو أو طائفة أهل الجفاء.

      قال الحسن البصري -رحمه الله-: «السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا».

      وقال الإمام البخاري -رحمه الله- في تفسير الأمة الوسط: «هم الطائفة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم».

الطائفة المنصورة

     والطائفة المنصورة فسرها الإمام أحمد وغيره: بأنها أهل الحديث، فثبت بذلك كله أن الأمة الوسط في هذه الأيام من سلك مسلك الصحابة والسلف الصالح من جميع الوجوه، والوسطية هي الحق بين باطلي الإفراط والتفريط، وليست الوسطية الوسط بين الحق والباطل، فقد قال -تعالى-: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.

السنة والبدعة

      ليست الوسطية التوسط بين السنة والبدعة «فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، فكل من خرج عن طريق أهل السنة خرج عن الصراط المستقيم، وضل الضلال المبين، وليست الوسطية التوسط بين الإسلام وبقية الأديان، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وليست الوسطية هي الحداثة والتنوير الذي مرتكزه تطويع الإسلام وأصوله ومفاهيمه لمفاهيم الأعداء، الذين يقول الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}؛ إن الوسطية الحق يجمع أصولها وفروعها ويضبط مفاهيمها ومصطلحاتها ما تضمنته النصوص التالية:

      قوله -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. وقوله -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

      وقوله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

      وحديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه -: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا فَقَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ تَلا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا إِلَى آخِرِ الآيَة».

فالوسطية ما تضمنته هذه النصوص من أصول ومعان ومفاهيم، والوسطي من فهم تلك النصوص حق فهمها، وعمل بمقتضاها.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك