رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ أحمد المرابط 25 أغسطس، 2020 0 تعليق

الوسطية الإسلامية (1)

لتحقيق ما أمر الله -تعالى- به عباده من الاعتصام بحبله مجتمعين غير متفرقين، متآلفين غير متنافرين جعل -سبحانه- شريعته وسطية ناكبة عن طرفي الإفراط والتفريط، والأدلة على وسطيتها من الكتاب والسنة كثيرة.

      فمن الكتاب: قوله -تعالى-: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} (الإسراء:110)، وقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وغيرها من الآيات، ومن السنة: ما رواه أبو داوود عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير العالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»، وما رواه الترمذي وصححه، والحاكم في المستدرك وأبو داود وغيرهم عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - مرفوعا: «... فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا»، وهذا كله قد وقع، وأدى العدول عن الوسطية الإسلامية إلى نشوء التصنيف والإقصاء، فشكلا خطورة بالغة على وحدة المجتمع الإسلامي.

من هنا أتت أهمية هذا البحث الذي قدم ضمن المؤتمر العالمي للوحدة الإسلامية، الذي عقد بمكة المكرمة، ونتناول فيه وسطية الإسلام في سبعة نقاط أساسية.

النقطة الأولى

الوسطية الإسلامية في العقيدة

     ووسطية العقيدة تعني توحيد الله -تعالى- في ربوبيته وفي عبادته وفي أسمائه وصفاته، على ضوء سورة الفاتحة؛ فقد أثبت الله فيها توحيده في صفاته فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وقد جاء في تفسيرها، تقدير فعل أمر من القول قبل قوله -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ فالمعنى: قولوا يا عباد الله: الحمد لله رب العلمين، إلى آخر السورة، كما أثبت -تعالى- توحيده في العبادة؛ حيث قال: {إياك نعبد}، وأثبت توحيده -تعالى- في الربوبية فقال: {وإياك نستعين}، والآيات المقررة لهذه الأقسام كثيرة في القرآن معروفة مشهورة، تتجلى من خلالها الوسطية الإسلامية في العقيدة؛ حيث إنها تثبت لله -تعالي- أسماءه وصفاته بلا إفراط يؤدي للتشبيه، لقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)، وبلا تفريط يؤدي إلى التعطيل؛ لأنه -تعالى- أثبت لنفسه الأسماء الحسني والصفات العلى، فقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف:180)، وقال -تعالى-: {ومن أصدق من الله قيلا} (النساء:122)، وقال -تعالى-: {أأنتم أعلم أم الله} (البقرة: 145)؛ وحيث تقرر في توحيد العبادة الذي هو إفراده -تعالى- بالعبادة ألا يصرف أي نوع منها لغير الله -تعالى- قال -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 23).

توحيد الربوبية

      وتقرر في توحيد الربوبية أن لا استعانة ولا استغاثة إلا به -تعالى- وحده، ولا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا له، فلا إفراط ولا تفريط بدعاء غيره أو استعانته أو النذر له أو الخوف منه أو رجائه؛ قال -تعالى-: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:106-107)، وفي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز في هذا المعنى ما نصه: «فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} توحيد، متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الذين فارقوا التوحيد.

النقطة الثانية

الوسطية الإسلامية في العبادة

للوسطية الإسلامية في العبادة حيثيتان:

الحيثية الأولى

أن تكون العبادة منضبطة بثلاثة ضوابط

- الضابط الأول: أن يكون العمل الصالح مبنيا على عقيدة صحيحة، لقوله -تعالى-: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 124)

- الضابط الثاني: أن يكون العمل الصالح جاريا على ما في الكتاب والسنة، لقوله -تعالى-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:٨٥)، ولما بوَّب به البخاري في صحيحه ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».

- الضابط الثالث: الإخلاص في العمل لله -تعالى-؛ لقوله -تعالى-: {ألا لله الدين الخالص}، ولما روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله -تبارك وتعالى-: انا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه».

الحيثية الثانية

أن يتحرى العبد ما يطيقه من العبادة ويداوم عليه

     لما رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي وغيرهم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل. وكان إذا عمل عملا أثبته، ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم قالوها فقالوا: وأي تخ من النبي وقد غفر الله له ما تقدم من نبه وما تأخر؟ قال أحدهم؛ اما آنا صلى الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الآخر: أنا أغتر النساء و أتزوج أبدا، فجاء البئر إليهم فقال: أنت الذي قلم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله ع وجل وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

النقطة الثالثة

الوسطية الإسلامية في الحكم على العصاة

     وهي ألا يحكم عليهم بالخروج من الملة ما داموا من أهل القبلة معترفين بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، مصدقين بما أخبر به، وأن يحكم بأن الكفر والنفاق المطلقين في بعض نصوص الوحي على بعض المعاصي: عمليًا لا عقديًا بالنسبة لأهل القبلة، بل أهل القبلة الذين قال فيهم النبي: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته»؛ فهؤلاء يسمون في الوسطية الإسلامية: «مسلمين مؤمنين»، ما داموا معترفين بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، مصدقين بما أخبر به.

     وأهل الوسطية الإسلامية لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب ما لم يستحله، ولا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، فلا هم مرجئون، ولا هم مكفرون وعيديون، ولا هم يرون المنزلة بين المنزلتين، بل يسلكون المسلك الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط فيرجون للمحسنين من المؤمنين أن يعفوا الله عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ويستغفرون لمسيئهم ولا يأمنون عليهم ويخافون عليهم ولا يقنطونهم، ويرون أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا موحدين وإن لم يكونوا تأئبين، بل يرون أنهم كغيرهم صائرون إلى مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما قال تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 116)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته.

النقطة الرابعة

الوسطية في التعامل مع ولاة أمور المسلمين

     وتتمثل في عدم الخروج عليهم وإن جاروا، وعدم الدعاء عليهم، وعدم نزع اليد من طاعتهم؛ لأن طاعتهم فيما لا معصية فيه الله -تعالى- من طاعة الله -تعالى-، فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف، وعند البخاري: «ولو لحبشي كأن رأسه بيبة»، وفي الصحيحين أيضا: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله؛ إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله -تعالى- بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قال: قلت: وما نه؟ قال: قوم يستتون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقل: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم؛ دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: صفهم لنا يا رسول الله، قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميه جاهلية»، وفي رواية: «فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك