رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أسامة شحادة 9 أغسطس، 2018 0 تعليق

الوحي الرباني مفهومه وحقيقته

 

تبين معنا في المقال السابق حاجة البشرية للوحي الرباني؛ لتسعد في دنياها وتسلم في آخرتها؛ وذلك لعجز عقلها وحواسها عن معرفة عالم الغيب، وما جرى في الماضى، وما سيجري في المستقبل، كما أن حيرتها حول أجوبة الأسئلة الوجودية الكبرى لا تزال تقلقها مهما تنوعت هذه الإجابات، أما اضطراب معيشتها لعدم الاتفاق على معايير الخير والشر والصواب والخطأ؛ فقد تسبب بحروب كارثية وتناقضات ضخمة لم تصل معها لبر الأمان، الذي لا يمكن الحصول عليه إلا من خلال اتباع الوحي الرباني؛ فما حقيقة هذا الوحي؟

ثلاثة أصول

     يدور معنى الوحي في اللغة العربية على ثلاثة أصول هي: الإعلام والسرعة والخفاء، وقد استخدم القرآن الكريم ذلك في عدد من الآيات منها قوله -تعالى-: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل: 67) وقال -تعالى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) أي ألهمهما إلهاما غريزيا وفطريا، وقال عن زكريا -عليه السلام-: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم: 11) أي بإشارة.

الوحي الذي تفتقده البشرية

     أما الوحي الرباني الذي تفتقده البشرية هو إعلام الله -تعالى- لأنبيائه بشرعه ودينه سواء كان هذا الإعلام والتعليم من الله -عز وجل- لأنبيائه مباشرة أم عبر ملائكته أم بالإلهام، وهو الوحي الذي تتابع نزوله على  الأنبياء على مر العصور كما قال -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء: 163-164).

العلم الإلهي

     والوحي الرباني مستنَدُه العلم الإلهي، الذي هو علم شامل محيط بكل شيء أزلاً وأبداً، لا يتطرق إليه الخطأ أو الشك، قال -تعالى-: {وسع ربي كل شيء علما} (الأنعام: 80)، وقال -تعالى-: {إنه بكل شيء عليم} (الشوري: 12)؛ ولذلك فالوحي الرباني هو علم يتجاوز حدود المعرفة البشرية المستندة للعقل والحس.

برهان الوحي

وبرهان الوحي وثبوته من وجوه:

دلائل عقلية قطعية

     الأول بما فيه من دلائل عقلية قطعية على عالم الغيب كوجود الله -عز وجل- والبعث والنشور كقوله -تعالى-: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (الطور: 35)، أو قوله -تعالى-: {قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } (يس: 78-79).

صدق أخباره وأنبائه

     والوجه الثاني صدق أخباره وأنبائه مما لا يمكن للبشر العلم بها ومعرفتها، كإخبار القرآن بغلبة الروم بعد بضع سنين {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم: 2-3)، وإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نار عظيمة في الحجاز؛ فقال - صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» متفق عليه، وقد وقع ذلك في سنة 654هـ ودونه المؤرخون.

التحدي

والوجه الثالث: التحدي بعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ولو على مستوى سورة، وأصغر سور القرآن، بل وسطر واحد فقط، ثم تحداهم بأقل من ذلك؛ فقال -تعالى-: {فليأتوا بحديث مثله} (الطور: 34).

دقة أحكامه وشرائعه

     والوجه الرابع: دقة أحكامه وشرائعه وتحقيقها لمصلحة الناس، على اختلاف أزمانهم وأجناسهم ولغاتهم، كقوله -تعالى-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، والتاريخ يشهد للحضارة الإسلامية كيف أنها جلبت السلام والأمان للناس جميعاً ما تمسكوا بشريعة الرحمن، واتبعوا سنة النبي العدنان.

الأنبياء الصادقون

     ولذلك فالوحي الرباني بذاته هو ما يدل الناس على الأنبياء الصادقين، ويكشف زيف الدجالين المدّعين للنبوة؛ فالوحي لا يتنزل إلا على من اصطفاهم الله -عز وجل- لوحيه ورسالته ونبوته {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج: 75)؛ فالنبوة لا تُكتسب بجهد ومعاناة بشرية أو عبقرية وتأمل كما يزعم بعض الفلاسفة والمتصوفة، بل النبوة اصطفاء رباني لخيار الناس ليتلقوا الوحي الرباني، وهو ما يسد الباب في وجه الأدعياء.

     ولذلك لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم- متميزا بجهد خاص عن الناس في زمانه لتلقي الوحي، ولم يكن عنده علم سابق بالنبوات، قال -تعالى-: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} (القصص: 86) بل جاءه الوحي مفاجئاً له؛ ولذلك فزع النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه جبريل -عليه السلام- كما هو معروف.

ربانية الوحي

     ومن ربانية الوحي أنه لا ينزل على الأنبياء بحسب رغبتهم، بل قد يتأخر لحكمة ربانية كما في حادثة الإفك، وقد يعاتَب النبي كما في قصة الأعمى في سورة عبس، وهذا يدل أيضاً على أن الوحي ليس انعكاساً لواقع زمن النبي، بل هو متجاوز لذلك، وهو في حالة الوحي الخاتم يمتد ليشمل واقع البشرية كلها ولقيام الساعة.

صدق الأنبياء

كما أن الوحي الرباني الذي ينزل على الأنبياء يُظهر صدق الأنبياء، وتسخر المعجزات لهم، بينما وساوس الشيطان هي التي تتنزل على الأدعياء والدجالين كمسيلمة الكذّاب وأمثاله؛ ولذلك سرعان ما ينكشف زيفهم وكذبهم، بينما تستمر مسيرة النبوة الحقيقية.

ختم الوحي

     وقد خُتم الوحي الرباني بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لقوله -جل وعلا-: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40)، فلا نبي بعده -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يكشف ضلال فرقة الأحمدية القاديانية التي تدعي نبوة دجالها ميرزا القادياني.

     وبسبب ختم النبوة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- تكفل -سبحانه وتعالى- بحفظ القرآن الكريم، بخلاف ما سبقه من كتب الأنبياء السابقين كما في قوله -تعالى-: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9)، لتكون أحكامه ومفاهيمه يقينية وعابرة للزمان والمكان.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك