الوجود الإسلامي في تنزانيا في ضوء التحديات المعاصرة (1)
ظلّت جمهورية تنزانيا الاتحادية مثالاً لسيطرة الأقليّة على الأغلبيّة على الحكم، وهيمنتها على مقدّرات البلاد المختلفة؛ حيث استطاعت الأقلية النصرانية - بدعم تاريخيّ مباشر من المستعمر البريطاني - الإمساك بإدراة الدولة، ومفاصل اقتصادها، وقد ترتّب على ذلك تهميش الأغلبية المسلمة، وإبعادها عن مراكز اتخاذ القرار، بإبعاد المجتمع المسلم عن التنمية والتعليم؛ فعاش ذلك المجتمع في حالات عوز وفقر وجهل، كانت كفيلة بتكبيله عن التطوّر ومجاراة روح العصر، في وقت تنعم فيه الأقلية النصرانية بكلّ ما من شأنه أن يجعلها ترتقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وللوقوف على مستقبل الوجود الإسلامي في هذا البلد الإفريقي المهم؛ نتناول في هذا المقال عدداً من المحاور التي تحتاج – مستقبلاً - إلى مزيد من التفصيل.
دخول الإسلام إلى تنزانيا
وفَد الإسلام إلى ال ساحل الشرقي لإفريقيا مبكراً، وذلك بحكم قربه من جنوب الجزيرة العربية؛ فساحل إفريقيا الشرقي هو أول من احتضن الهجرات الإسلامية الأولى، وتطوّرت العلاقات الاجتماعية بين العرب وشعوب شرق إفريقيا، ثم تتابعت الهجرات إليه، وانداحت «اتسعت» جنوباً.
ثم هاجرت مجموعات أخرى من المسلمين إلى الساحل الشرقي لإفريقيا، بعد ذلك فراراً من بطش الحجّاج بن يوسف الثقفي سنة 65ه، وكان لهذه الهجرات دور كبير في إنشاء مراكز تجارية على الساحل الشرقي لإفريقيا، ومن هذه الهجرات الجماعية هجرة الجلنديين، والهجرات الشيرازية التي كوّنت مملكة كلوة الإسلامية، ثم جاءت هجرة البوسعيدية وغيرهم لتحمل الإسلام عبر الطرق التجارية إلى الداخل.
حضارة شرق إفريقيا
وكان لكلّ ما تقدّم الأثر الفعّال في تكوين حضارة مناطق شرق إفريقيا ونسيجها الاجتماعي والديني، الذي جعل من المستحيل فصل تلك المعالم الحضارية لشعوب شرق إفريقيا عن الإسلام.
هذا، وقد ظلّ تاريخ نشأة الثقافة السواحلية في شرق إفريقيا موضع جدال، ومجال آراء مختلفة بين المؤرّخين، ولكن هذه الآراء تتفق على أن الحركة التجارية بين جنوب الجزيرة العربية والساحل الشرقي لإفريقيا ساعدت كثيراً في تكوين ثقافة بانتو إسلامية؛ حيث خلّفت هذه الهجرات مجتمعات عربية على الساحل الإفريقي.
اللاجئون السياسيون
وقد أدّى تدفّق اللاجئين السياسيين من الجزيرة العربية في عهد العباسيين والأيوبيين إلى استيطان أعداد كبيرة من المسلمين في منطقة زنجبار وممباسا، حتى أصبح هذا الإقليم جزءاً من الثقافة الإسلامية التي بسطت سيطرتها عليه؛ حيث بدأ العلماء والأدباء في المجتمع السواحلي في حصر أنفسهم في التأليف باللغة السواحلية والعربية، ويُعَد ما أُلّف من الأعمال باللغة العربية مصادر ثرّة «غزيرة» لدراسة الإسلام في شرق إفريقيا، ومنها دراسة المغيري، فضلا عن دراسات أخرى، معظمها من تأليف علماء ذوي أصول عربية أو فارسية.
النصرانية
أما النصرانية في نسختها الحديثة، التي سبقتها نصرانية قديمة في بلاد الحبشة قبل الإسلام؛ فيرجع دخولها إلى شرق إفريقيا إلى عهد الكشوفات الجغرافية التي قام بها البرتغاليون الذين جاؤوا إلى هذه المنطقة لتأسيس الكاثوليكية في منطقة (تنجانيقا)، التي منها تنزانيا الحالية، إلا أن تأثيرها لم يُحدث أثراً ذا بال، وجاء متأخراً في القرن السابع عشر تقريباً، وهو ما أدّى إلى عدم اندماج النصرانية مع المجتمع المحلي.
تاريخ النصرانية
الحقّ أن الخطوط العريضة لتاريخ النصرانية في شرق إفريقيا - طلباً للاختصار، ووفقاً للمصادر العديدة التي أرّخت لهذه الديانة - يمكن حصرها في الآتي:
- أولاً: أن هناك جهوداً تبشيرية عديدة تمّت في الفترة من (1498م - 1698م)، وتمثّل هذه الفترة مقدّمة نشر المسيحية التي اهتم بها الملوك البرتغاليون، وعملوا على ذلك من خلال وسائل مختلفة.
- ثانياً: أن هناك عودة للمسيحية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1844م - 1884م)، وفي هذه المرحلة قامت مجموعة من الرواد المبشّرين، من خلال التطبيق العملي، باستخدام مناهج ثلاثة في التنصير: هي المنهج التعليمي، ومنهج الجوالة، والمنهج الاقتصادي.
- ثالثاً: أن هناك جهوداً تبشيرية (تنصيرية) مهمّة في الحقبة الألمانية، التي كانت ألمانيا تحتل فيها تنزانيا، وقد تميزت هذه الفترة باندفاع المؤسسات والبعثات التبشيرية الألمانية للعمل في منطقة تنجانيقا، التي من بينها جمعية التبشير الأنجليكانية لشرق إفريقيا (برلين ثلاثة Berlin III)، وبعثة بازل Bethel Mission، وجمعية برلين التبشيرية Berlin Mission Society (برلين واحد Berlin I)، وغيرها.
- رابعاً: أن هناك جهوداً تبشيرية (تنصيرية) ذات ثقل في الحقبة الإنجليزية، حينما كانت إنجلترا تستعمر تنزانيا، وفي هذه الحقبة برزت إرسالية الجامعات لوسط إفريقيا UMCA التي تعدّ من أكثر البعثات في شرق إفريقيا عراقة، وقد استطاعت التلاؤم مع الأوضاع السياسية المتعاقبة على المنطقة، ولم يضطرب عملها إلا في سنوات الحرب العالمية الأولى كما شهدت عمل الجمعية التبشيرية الكنسية CMS التي تُعَد أول إرسالية مسيحية تطأ أقدامها أرض زنجبار في القرن التاسع عشر، كما شهدت أيضاً نشاط إرساليات كاثوليكية عديدة، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى.
- خامساً: أن الفترة التي أعقبت استقلال تنزانيا شهدت، - ولاسيما في عقد الستينيات من القرن الماضي - إنشاء العديد من المؤسسات والبعثات التبشيرية الجديدة؛ فاجتمع بذلك عدد كبير من المنظمات والمؤسسات والبعثات التبشيرية. وانطلاقاً من ذلك؛ يتضح قِدَم حضور الإسلام إلى هذه البلاد، وقوة تأثيره، فهل ينعكس هذا على واقع المسلمين والمجتمع المسلم اليوم في هذه البلاد ذات الأغلبية المسلمة؟
واقع المسلمين في تنزانيا
فطن الاستعمار الأوروبي الحديث لتنزانيا، بشقيّه الألماني والإنجليزي، إلى القوة الكامنة وسط الأغلبية المسلمة في البلاد؛ فسعى إلى فصلها عن روح العصر علماً وتقانة، وقطعها عن محيطها العربي والإسلامي، وقد تجلّى هذا الأمر في ذروته في عدم إقامة مشروعات تنموية في مناطق كثافة المسلمين، وعدم إنشاء مدارس على النّظم الحديثة فيها، وغير ذلك، ما ترتب عليه أن يكونوا - في بادئ الأمر - بعيدين عن عملية صنع القرار، فضلاً عن بعدهم عن الوصول لحكم بلدهم الذي تهيمن عليه النّخب النصرانية.
فترة الاستعمار
وإذا كان تاريخ تنزانيا، ولاسيما الزنجباري منه، يشهد على أن هذه البلاد كان يحكمها المسلمون، ويديرون شؤونها في عدل ونزاهة؛ فإن فترة الاستعمار بشقيه الألماني والإنجليزي، فضلا عن فترة العقود الأولى من الاستقلال، تشهد على تقزيم كلّ ما يمتّ إلى الإسلام بصلة وإقصائه؛ فانفسح المجال للنّخب النصرانية لتفعل في البلاد ما يحلو لها (مثلما فعل نيريري بالمسلمين)، وقد استمرت هذه الحال إلى عهد قريب؛ حيث دبّت في المسلمين صحوة لاسترداد مكانتهم التاريخية، وتصحيح أوضاعهم مما اعتراها من فقر مدقع وتردٍ بادٍ للعيان.
العقدان الأخيران
وإذا جاز لنا التركيز في أوضاع المسلمين في تنزانيا في العقدين الأخيرين، يمكننا أن نخلص إلى جملة من النقاط تعكس واقع المسلمين وإقصاءهم من أيّ دور في البلاد، ومن أبرزها:
الأوضاع الاقتصادية
- أولاً: إن أوضاع المسلمين الاقتصادية تبدو بالغة السوء؛ فالغالبية العظمى منهم من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، كما تفتقر العديد من قرى المسلمين ومدنهم إلى الخدمات الأساسية؛ فعلى الدوام كان هناك تركيز واضح من الحكّام غير المسلمين في المناطق غير المسلمة، في الوقت الذي كان يتم فيه دائما حرمان المسلمين من المناصب السياسية الكبرى والوظائف المرموقة.
واقع التعليم
- ثانياً: يعاني المسلمون ندرة كبيرة في أعداد المدارس الإسلامية التي تهتم بالعلوم الإسلامية، مثل القرآن والسنّة النبوية، في الوقت الذي لا تهتم فيه المدارس الرسمية بالدراسات الإسلامية، وواكب هذا النقص في المدارس نقصا شديدا في أعداد المعلمين القادرين على الوفاء بمطلوبات الدعوة الإسلامية، وكلّ هذا أثّر تأثيرا واضحا على درجة وعي المسلمين بدينهم، فضلا عن ذلك؛ فإن 50% من المسلمين لا يقرؤون جيداً، أو لا يقرؤون نهائياً؛ ولهذا لا يتقنون قراءة القرآن الكريم والاستفادة منه.
واقع العمل الخيري
- ثالثاً: إن أوضاع المسلمين تأثّرت كثيراً بإغلاق مقار كثير من جماعات الإغاثة، ومنها مؤسسة الحرمين الخيرية التي أغلقت أبوابها في تنزانيا، وغيرها من المنظمات، لدرجة أنه لم يبق إلا الدعم الذي تقدّمه النّدوة العالمية للشباب الإسلامي، ولجنة مسلمي إفريقيا (جمعية العون المباشر حالياً)؛ فهي التي تقدّم الدعم الذي يذهب أغلبه إلى حفر الآبار، وبناء المساجد، والمدارس، وكفالة الأيتام.
وقد أفسح هذا الغياب المجال للعديد من منظمات التنصير لتعيث فساداً في تنزانيا، وأغلبها منظمات بروتستانتية، وجماعات كاثوليكية، تستغل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، ولاسيما المناطق النائية، عبر إنشاء مستشفيات, ومدارس, وتقديم دعم مالي, وملابس, وأغطية للطلاب.
حملات تنصيرية
- رابعاً: أن المسلمين في زنجبار -على وجه التحديد- يتعرضون لحملات تنصيرية، تعتمد على عنصري السلاح والإغراء بالمال، وإجبار النساء المسلمات على الزواج من المسيحيين لكي تستطيع حملات التنصير الوصول إلى تنصير اجتماعي شامل، وقد تم توزيع الكتب المسيحية باللغة المحلية (السواحلية) والأجنبية (الإنجليزية والعربية)، وأنشِئت مكتبة ضخمة سُمّيت باسم (مجمع الكتب المسيحية).
صورة قاتمة
إن الصورة المأساوية القاتمة التي تعكسها لنا النقاط السابقة، التي حاولنا فيها توضيح أوضاع المسلمين في تنزانيا، أصبحت تأخذ طابعاً جديداً، يظهر تحسّنها إلى حدّ ما على الرغم من أن النّخب النصرانية في البلاد استثمرت حدثين مهمين للتضييق على المسلمين في الفترة الأخيرة، أولهما: تفجير السفارة الأمريكية في دار السلام في عام 1998م، وثانيهما: أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، فضلا عن الطَّرْق بشدّة على باب قديم تربط فيه هذه النّخب بين الإسلام والعرب وتجارة الرقيق.
مكتسبات فترة الرئيس أمريشيوكويتي
مهما يكن من أمر؛ فقد تحسّنت أوضاع المسلمين بعد انتخاب الرئيس أمريشيو كويتي، الذي بذل جهوداً كبيرة لإنهاء حالة الحرمان التي عاناها المسلمون لوقت طويل؛ فقد أصدر قرارات بإنشاء مدارس إسلامية، ومحاكم شرعية، وسعى في الوقت الحاضر إلى انضمام تنزانيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو الأمر الذي يواجه رفضاً شديداً من قِبَل النصارى الذين هدّدوا بمعارضة هذه الخطوة، الأمر الذي جعل الرئيس الجديد يحاول إقناعهم بأن يوغندا – مثلاً - دولة علمانية، وبالرغم من هذا فقد انضمت للمنظمة، وبأن تنزانيا تستفيد من هذه الخطوة بالحصول على منح ودعم اقتصادي، وقروض من المنظمات الإسلامية.
مناصب وزارية
كما حصل المسلمون في عهد الرئيس كويتي على مناصب وزارية كانت محرّمة عليهم لمدة طويلة، وعلى رأسها منصب وزير الدفاع، وكثير من المناصب السيادية، وهو الأمر الذي حاول النصارى استغلاله لتشويه صورة الرئيس، وحاولوا كذلك استعداء الغرب على الرئيس المنتخب، ويدّعون أن هذه التغييرات قد تجعل تنزانيا معقلاً لجماعات العنف، ويمكن أن تتكرر مأساة تفجير السفارة الأمريكية في دار السلام، التفجير الذي استغله النصارى في السابق للضغط على البرلمان لإقرار قانون مكافحة الإرهاب في عهد الرئيس السابق وليم ماكابا، ذلك القانون الذي تم استغلاله لطرد المنظمات الإغاثية الإسلامية التي كانت تعمل في البلاد، وحلّت محلّها منظمات مشبوهة تحظى بدعم الأمم المتحدة.
جامعة خاصة
هذا، وفي عهد الرئيس كويتي، أصبح للمسلمين، -بعد معاناة طويلة- جامعة خاصة بهم، يتوقع لها أن تقوم بدور متعاظم، يسدّ ثغرة مهمّة طالما عاناها المجتمع المسلم في البلاد، تلك هي جامعة موروغورو، التي خرّجت وما تزال تخرّج مجموعة مهمة ممن سيكون لهم شأن في قيادة تنزانيا، ذاك على مستوى تنزانيا بصفة كليّة.
نجاحات سياسية
أما زنجبار التي يمثّل فيها المسلمون 97% من تعداد سكانها؛ فقد حقّق فيها المسلمون نجاحات عديدة على الصعيد السياسي؛ إذ تمكنوا من لعب دور سياسي واسع في الانتخابات العامة التي جرت في عام 1995م وعام 2000م، كما نجحت المعارضة الإسلامية المتمثلة في (حزب الجبهة المدنية المتحدة) في تحقيق فرص واسعة في انتخابات 2005م.
- ويمكن القول: بأن أوضاع المسلمين، ولا سيما السياسية، في طريقها إلى التحسّن المستمر، الذي يحتاج إلى مزيد من المناصرة، وهذا لا يعني أن عامة المسلمين في البلاد قد تحسّنت أوضاعهم تحسّناً يوجب لهم المنافسة الحقّة في إدارة دفّة البلاد، وإنما الذين تحسّنت أوضاعهم هم بعض النّخب القليلة التي عانت الأمرّين حتى تصل إلى هذه المرتبة، وأغلب الظنّ أن المسلمين -عامتهم ونخبهم- يحتاجون إلى الارتباط بالعالم الإسلامي والعربي، للحصول على مزيد من الدعم الاقتصادي المالي، ولمزيد من الاستثمارات.
لاتوجد تعليقات