رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فضيلة الشيخ: عبدالله الغنيمان 8 مايو، 2013 0 تعليق

الهـــوى وأثره في الخلاف (3)

استكمالا لما سبق نقول إنه مما يؤسف له أن هذا الأمر المهم وهو أمر الاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف لم يوله طلبة العلم في أيامنا هذه ما يستحقه من الاهتمام والاعتناء به، مع وجود كثير ممن نصب نفسه للتوجيه والتدريس ويغلب عليه حب الظهور واتباع أهواء النفوس مع الجهل الكثير بالمسائل العلمية المهمة، فصار من ثمار ذلك هذه الحالات التي يعيشها الشباب اليوم من التحزبات والاشتغال بالقيل والقال، وإطلاق الألسنة التي تلوك وتلفظ في أعراض الناس، ولا سيما المشايخ والدعاة إلى الله، بل توجه إليهم سهام النقد والتجريح بلا جريمة، بل جعلوا المحاسن مساوئ !

وقد استمعت لكلام أحد هؤلاء نقل كلاما لأحد الدعاة يثني فيه على العلماء ويقول: «إنهم يقومون بأعمال كثيرة ويتحملون أعباء عظيمة، فيجب ألا نحملهم ما لا يطيقون، ويجب علينا أن نساعدهم ونعاونهم ونكمل النقص الذي يحصل لهم».. ثم يجعل هذا الكلام محلا للانتقاد ويقول: «وهذا هو تنقص المشايخ والعلماء وعدم تقديرهم».. إلى آخر هذيانه الذي هو أشبه بهذيان المحموم، فما أدري ماذا يريد هذا الناقد الغيور على المشايخ؟! هل يريد أن يجعلوا في عداد الرسل معصومين كما تقوله الرافضة أو أنه لم يجد شيئا يتعلق به إلا أن يلبس على الناس بأن هؤلاء الدعاة قد خرجوا عن الحق فصاروا يرمون أهله بالتنقص والازدراء ؟!

- أقول: من نتائج أفعال هؤلاء تبلبلت أفكار كثير من الشباب.

      فمنهم من ضل طريق الهدى، وصار يتبع ما يرسمه له هؤلاء النقدة الذين وقفوا في طريق الدعوة يصدون عن سبيل الله، ومنهم من صار لديه بسبب هؤلاء النقدة فجوة عظيمة بينه وبين العلماء، ووحشة كبيرة فابتعد عنهم، 

     والعجب أنهم بهذا يزعمون أنهم يطبقون منهج الجرح والتعديل، وقد اتخذوا في هذا رؤساء جهالاً فضلوا وأضلوا، فعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي هؤلاء المساكين أرباع المتعلمين أو أعشارهم.

     وفي الحديث الصحيح : «لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم» يعني خير لك من الدنيا، فكذلك من ضل بسببه رجل واحد فعليه وزر عظيم، وقد قال الله تعالى بعدما ذكر قصة قتل ابن آدم لأخيه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} (المائدة:32).

      وإضلال الإنسان في دينه أعظم من قتله بكثير، والكلام في مسائل الدين يجب أن يكون بدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يقصد به وجه الله، وألا يكون ضرره أكبر من نفعه، وألا يكون الحامل عليه الحسد لمعين واتباع الهوى.
     قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: « ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم؛ فإن العدل واجب لكل أحد وعلى كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال، قال تعالى : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8).

     وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق ألا يظلم، بل يعدل عليه».
     وقال: «والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم، والعدل من المعروف الذي أمر الله به وهو الحكم بما أنزل الله على محمد 
صلى الله عليه وسلم ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي[ وعلى من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، 

     وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية أو العملية، قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} (البقرة: 213)، وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} (الشورى:10).

      فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك، ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة، فهو كافر! وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة ولا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه، 

     والله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه، وبدينه، وبالإسلام وبالإخلاص وبأمره، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة، فإن القرآن الكريم يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده وأمره وطاعته، والاعتصام به جميعاً إنما يكون في الجماعة ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله، وفي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».

     والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين الأحياء منهم والأموات، وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع».

     وقد قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} (الأحزاب: 58)، فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية.
     ومن كان مجتهدا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وإن حصل له بفعله مصيبة،
وقال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} (الحجرات: 5)، وثبت في الصحيح عن النبي 
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره.. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته».

     فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهتّه، ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم وتعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته، وإن كان فيه ذلك فقد اغتابه، ولكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين.

     فالأول كقول المشتكي المظلوم: فلان ضربني، وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك، قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (النساء: 148)، وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله «إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وابني ما يكفيني بالمعروف! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». أخرجه البخاري ومسلم، فلم ينكر عليه قولها ذلك، وهو من جنس قول المظلوم،

     وأما النصيحة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها، قالت: خطبني أبو جهم ومعاوية، فقال: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» وفي لفظ: «يضرب النساء ولكن انكحي أسامة»، فذكر ما تحتاج إليه، وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله، والنصيحة مأمور بها، ولو لم يشاوره كما مر في حديث تميم،

وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقل عنه العلم.

وكذلك بيان غلط من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية.
     فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، ولا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق.

     أما إذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها، فإن كلامهم فيها يكون كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان فذِكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة»، وفي الصحيحين أن النبى[ قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». وفيهما عنه[ أنه قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (الحجرات: 11)،

فنهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، واللمز هو العيب والطعن.
وقوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم}، أي لا يلمز بعضكم بعضا.

     وعلى المسلم أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما يقوله ويفعله، وألا يكون بقوله وفعله طالبا الرئاسة لنفسه أو لطائفته، أو تنقص غيره وحسده، أو أن يفعل ذلك لطلب السمعة والرياء؛ فإنه بذلك يحبط عمله، وإذا كان علمه صالحا وخاليا من الشوائب المفسدة في المبدأ، ولكن لما رد عليه قوله أوذى من أجل ما هو لله تعالى فنسب إلى الخطأ والغرض الفاسد، عند ذلك طلب الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان وزين له ذلك فيكون مبدأ علمه لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يقع لأصحاب الاختلافات إذا كان كل واحد منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فيقعون في الهوى وطلب الانتصار لجاههم ورئاستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا، لا يغضبون عليه لله، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، فتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله فيتشبهون بالكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم فتنشأ الفتن بين الناس.

     وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والعبادة كلها له والاستعانة به، والخوف منه والرجاء له والعطاء والمنع له، وهذا لا يكون إلا بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، وطاعته طاعة الله، ومعاداته معاداة الله، ومعصيته معصية لله تعالى.
وصاحب الهوى يعميه هواه ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله، ولا يطلب ذلك، فلا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يهواه ويريده، ويغضب إذا خولف هواه، ويكون مع ذلك عنده شبهة دين وعلم، أو أنه يعمل على اتباع السنة ونصرة الدين والواقع خلاف ذلك.

     ولو قدر أن الذي معه هو الحق المحض ولكنه قصده الانتصار لنفسه ولغرضه، ولم يقصد أن يكون الدين كله لله وكلمة الله هي العليا بل قصده الحمية لنفسه ولطائفته أو قصده الرياء ليعظم ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من أمور الدنيا، لم يكن لله ولا في سبيله، فكيف إذا كان مثل غيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة؟! فهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا.

     والاختلاف إذا كان في ملة واحدة فكله مذموم؛ لأنه يؤدي إلى التنازع والتفرق، والدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} (البقرة: 176)، وقال: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} (يونس: 19)، فذمهم على الاختلاف، وأما إذا كان الاختلاف بين أهل الإيمان والكفر كقوله تعالى: {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} (البقرة: 253)، فهذا مطلوب؛ لأن فيه تمييز الحق من الباطل، ومزايلة الباطل والبعد عنه.

     وإذا حصل خلاف بين أهل الدين يجب أن يقصد به طاعة الله وتنقية الحق من الباطل في نفوس الناس.. رحمة بهم وإحسانا إليهم وطلبا لرضا الله تعالى، حتى إذا رد على أهل البدع الظاهرة مثل الرافضة وغيرهم يجب أن يقصد بذلك بيان الحق وهداية الخلق، ورحمتهم والإحسان إليهم، وإذا غلط في بيان بدعة أو ذمها أو معصية، يجب أن يكون قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا والقصد ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك