الهـــوى وأثره في الخلاف (2)
أمر الله عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير، وألا يموتوا إلا وهم مستسلمون لأمره منقادون لطاعته
من قواعد الشرع ومن مقتضيات الإيمان والاعتصام بكتاب الله: الوحدة على الحق والاتفاق عليه، وأن ترك الاهتداء بهذا الدين يورث الاختلاف والشقاق
استكمالا لما سبق الحديث عنه في أمر الهوى وأثره في الخلاف، نقول: إن من نظر في كثير من الخلافات بين الجماعات والأفراد، سواء كان ذلك في مسائل العلم أم في مجال التوجيه والعمل، وجد ظاهرها في طلب العدل والإنصاف، أو الصواب وترك الانحراف، وحقيقتها حب عبادة النفس واتباع الهوى، أو أغراض سيئة دنيئة، وقد علم أن الهوى يعمي ويصم ويضل عن سبيل الله، وقد ترجع إلى أمور شخصية أو تطلعات معينة دنيئة، وإن غلفت بالغيرة على الدين وإرادة إظهار الحق، والواقع خلاف ذلك .
ومن هذه صفته فهو ومن نحا نحوه المعني بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة وعبد القطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش».
فهو عبد لهذه الأشياء؛ لأن عمله من أجلها، ولها يرضى ويسخط؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط».
وهذا يدل على أن صاحب الهوى يعبد هواه كما قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله} (الجاثية: 23).
وفي حديث أبي هريرة الذي في الصحيح في الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار: «الأول من تعلم علما ليقال : هو عالم قارئ، والآخر من قاتل ليقال هو جريء شجاع، والثالث: من تصدق ليقال هو جواد كريم».
فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم وطلب الجاه عندهم وتعظيمهم لهم، لم يقصدوا بفعلهم وجه الله وإن كانت صور أعمالهم حسنة في الظاهر .
وفي الحديث الآخر: «من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه، فله من عمله النار».
فمباهاة العلماء أن يظهر لهم أنه يعرف ما لا يعرفون، ويدرك ما لا يدركون من المعاني والاستنباطات، وأنه يستطيع أن يرد عليهم، ويبين أنهم يخطئون.
وأما مماراة السفهاء فهو مجادلتهم ومجاراتهم في السفه.
وأما صرف وجوه الناس إليه فالمراد به طلب ثنائهم ومدحهم له، وتعريفهم بأنه عالم، فهو بعمله هذا يتقرب إلى النار .
وفي الحديث الآخر: «من طلب علما مما يبتغى به وجه الله تعالى، لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة».
ومقابله ما قاله أبو عثمان النيسابوري: «من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة»؛ لأن الله يقول: {وإن تطيعوه تهتدوا} (النور: 54).
فاتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف: «شر إله عبد في الأرض الهوى»! فهو يضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك، فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه شيعا يتعصب كل واحد لرأيه ويعادي من خالفه، ولو كان الحق معه واضحا لأن الحق ليس مطلوبه!! وبذلك يذلون وتذهب ريحهم، ويفشلون أمام كل عمل أرادوه؛ لأنهم صاروا متفرقين تتحكم فيهم الأهواء؛ ولذلك تجد هؤلاء كلما علم أحدهم أن من يخالفه قد تكلم في مسألة أو موضوع تجده يبادر إلى الرد عليه بدون تأمل في قوله وتلمس لوجه الصواب، بل يعمى عن هذا المقصد، ويبذل جهده في تضليل مخالفه وتفنيد رأيه بكل ما يستطيع، ولو برأي تافه وتعسف بغيض، مع أن الذي يوجبه الإسلام هو محادثة المخالف والاطلاع على دلائله، ووزنها بميزان الكتاب والسنة، ثم يكون ذلك هو المنهي للنزاع، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء: 65)، فنفى الإيمان عمن لم يحكّم الكتاب والسنة فيما يختلف فيه هو وغيره، ثم يسلم لحكمهما وينقاد له بدون تبرم أو ضيق صدر بذلك، بل لا بد من الرضا به والتسليم له مطلقا وإلا فلن يكون مؤمناً،
وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59)، فأوجب رد كل ما حصل فيه نزاع إلى الله والرسول؛ لأن قوله : {في شيء} نكرة تعم كل ما أحدث نزاعاً وإن قل، وبين أن الرد إليهما هو مقتضى الإيمان، فإذا لم يرد النزاع إلى الله والرسول فمفهوم ذلك انتفاء الإيمان عمن فعل ذلك ، وهذا المفهوم قد صرح به منطوقا في الآية السابقة، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته.. وذلك بإجماع العلماء .
وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: 63)، أي فليحذر من لم يتبع الرسول في أقواله وأعماله ظاهراً وباطنا أن يطبع الله على قلبه ويزين له سوء عمله فيراه حسنا فيزداد شرا على شر أو يصيبه الله بعقاب عاجل مؤلم لا يتخلص منه مع ما أعد له في الآخرة من النكال والإهانة،
قال ابن كثير: أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطنا: {أن تصيبهم فتنة} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، {أو يصيبهم عذاب أليم} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك، ثم ذكر الحديث الذي في الصحيحين: قال رسول الله[: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب يقعن فيها، فجعل الرجل يزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها»، ووجه ذكر هذا الحديث تفسيراً لهذه الآية ظاهر، وهو أن من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي بنفسه في النار، فليحذر الإنسان أن يزين له الشيطان أو هواه اتباع من خالف الشرع محسنا ظنه به فيعض على يديه يوم يحصّل ما في الصدور .
وكل هذا.. المقصود منه حسم النزاع وإنهاؤه ليحصل الوئام والاتفاق، فإن هذا من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية.
وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102)، وقال تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} (آل عمران: 107)، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، (الأنفال: 1)، وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} (الروم: 31-32)، وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (الأنعام: 159).
أمر الله عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير، وألا يموتوا إلا وهم مستسلمون لأمره منقادون لطاعته مبتعدون عن معصيته؛ فإن «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»،
وأمرهم أن يعتصموا بدينه عند التنازع والاختلاف والتفرق الذي يدعو إلى التعادي والتقاطع ثم الفشل والضعف وتسلط الأعداء! وأن يشكروا الله على ما من به عليهم من نعمة الاجتماع على دينه إخوة متحابين، وأمرهم أن يكونوا دعاة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نهاهم عن التفرق بعدما أعلمهم ضرره وما يترتب عليه من العداء والتباغض، ثم التدابر والتقاتل، كما حدث لمن قبلنا الذين يجب أن نعتبر بهم لئلا يصيبنا ما أصابهم؛ فمن فعل ذلك سوف يسود وجهه عند ملاقاة ربه وتيقنه بالجزاء العادل، وذلك يوم تبيض وجوه أهل الحق والوفاق الذين اعتصموا بكتاب الله عند التفرق والاختلاف، فعرفوا الحق واجتمعوا عليه، وعرفوا قبح الباطل وسوء عاقبة أهله فابتعدوا عنه، وكل هذا يدل صراحة على وجوب الاجتماع والائتلاف، ويحرم التفرق والاختلاف بجميع صوره، فمن أوجد ثغرة يخرج منها عن هذا الاجتماع يكون محاربا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، مفارقا لأمره، وهذا شأن أهل الضلال والأهواء.
أما أهل العلم فإنهم يختلفون في بعض مسائل العلم وهم متحابون مجتمعون على الحق، معتصمون بحبل الله، كما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض أحكام الشرع ولا يدعوهم ذلك إلى التفرق وأن يكونوا شيعا كل فريق يعادي الآخر، كما يحصل اليوم لكثير ممن يزعم أنه من أهل العلم؛ وذلك لأنهم اعتصموا بحبل الله جميعا كما أمر الله تعالى، وإنما كان اختلافهم في الاستنباط وإعمال الفكر في نصوص الشرع وكلياته فيما لم يجدوا فيه نصا، فحمدوا وأجروا على ذلك.. مثل اختلافهم في إرث الجد مع الإخوة، وفي جواز بيع أمهات الأولاد، وفي مسألة المشرّكة، وفي الطلاق قبل النكاح، وفي مسائل في البيوع، وغير ذلك كثير كل واحد يخالف الآخر، ومع ذلك كانوا متوادين متناصحين، رابطة الأخوة الإسلامية قوية بينهم.
قال الشاطبي: كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمرالدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهي قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} (الأنعام: 159)، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} (آل عمران: 103)، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين. ا هـ.
والتفسير الذي أشار إليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر به قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام: 159)، هو ما ذكره عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عائشة: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، هم أصحاب الأهواء، وأصحاب البدع، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة! يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة! وأنا بريء منهم وهم مني براء»!!
وقال الشاطبي أيضا: «ينبغي أن تذكر أوصاف أهل البدع ولا يعينون بأعيانهم لئلا يكون ذلك داعيا إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التي أمر الله بها ورسوله، حيث قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران: 103)، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (الأنفال: 1)، وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} (الروم: 31-32).
وفي الحديث : «لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا»، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين، والشريعة طافحة بهذا المعنى» ا هـ.
يعني أن من قواعد الشرع ومن مقتضيات الإيمان والاعتصام بكتاب الله: الوحدة على الحق والاتفاق عليه، وأن ترك الاهتداء بهذا الدين يورث الاختلاف والشقاق، كما قال تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق} (البقرة: 137)، فالله تعالى أوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، فعليه نجتمع وبه نعتصم.. لا بأوضاع زائفة، ولا بمذاهب مخترعة، ولا بجنسيات يعتز بها، ولا بسياسات باطلة مبنية على غير الحق والهدى! ونهانا عن التفرق والتفكك والانفصام بعد هذا الاجتماع والاعتصام؛ لما في ذلك من زوال الوحدة التي هي مناط العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو على الباطل، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الأعداء ومكائدهم .
وقد جاء النهي عن التفرق مصحوبا بالوعيد الشديد لفظاعة أمره، وسوء عاقبته، كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} (آل عمران: 105-106)؛ لأن الاختلاف بعد مجيء البينات خروج على أمر الله الذي يجب أن يكون جامعا للناس موحدا لصفوفهم، فإذا فهم قول الله واتبع وحسنت المقاصد صار عاصما من الاختلاف والتفرق، داعيا للاتفاق والاجتماع على طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك يتضمن التعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للمسلمين عامة ولاسيما؛ ولهذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو الدين كما في حديث تميم الداري، قال: «الدين النصيحة» قالها ثلاثا ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
لاتوجد تعليقات