الهـــوى وأثره في الخلاف (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين، فإن من أعظم دواعي الضلال وأسباب الهلاك: اتباع الهوى؛ فإنه يهوي بصاحبه إلى المهالك حتى يورده النار، قال الشاطبي: «سمى الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار»، وروي هذا عن الشعبي، وقال ابن عباس: ما ذكر الله – عز وجل – الهوى في كتابه إلا ذمه!! وأصل الضلال: اتباع الظن والهوى، كما قال تعالى فيمن ذمهم: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم: 23)، وهذا وصف للكفار، فكل من له نصيب من هذا الوصف فله نصيب من متابعة الكفار بقدر ذلك النصيب.
وقال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 1-4)، فنزهه عن الضلال والغواية، اللذين هما: الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعمل الحق، والغاوي الذي يتبع هواه، وأخبر أنه لا ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه. فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى.
ومتبع الهوى لا بد أن يضل، سواء عن علم أو عن جهل؛ فإنه كثيراً ما يترك العلم اتباعاً لهواه، ولا بد أن يظلم إما بالقول أو بالفعل؛ لأن هواه قد أعماه، ولهذا حذر السلف عن مجالسة من هذه صفته، كما قال أبو قلابة: «لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون»، وقال أيضا: «لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه لبسوا عليكم ما تعرفون»، يعني أن مُجالس صاحب الهوى لا يسلم من الشر، فإما أن يتابع صاحب الهوى على هواه وباطله، أو يدخل عليه شبهة في دينه الذي يعرف أنه حق.
وقال ابن عباس: «لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب»، وقال ابراهيم النخعي: «لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين»، وقال مجاهد: «لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب»، يعني أنهم يُعْدون من قرب منهم، كما أن من قارب الأجرب جرب، وقال محمد بن علي: « لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله»،
يقصد قوله تعالى: { وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } (النساء: 140).
وقال مصعب بن سعد: «لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتابعه! وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه»!، وقال يونس بن عبيد: «أوصيكم بثلاث: لا تمكنن سمعك من صاحب هوى، ولا تخل بامرأة ليست لك بمحرم، ولو أن تقرأ عليها القرآن، ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه»، وقال أبو قلابة يوصي أيوب السختياني: «يا أيوب احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا»، وقال أبو الجوزاء: «لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء»، وقد دخلوا في هذه الآية: {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} (آل عمران: 119).
وقد دل على هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال؛ فإنه قال: «من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»، والمتعين على العبد – ولا سيما المبتدئ والشاب – أن يبتعد عن الشبه والجدال في الدين، فإن ذلك يجر الى الردى.
قال ابن بطة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه ما استطاع؛ فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به حتى يتبعه لما يرى من الشبهات».
قال: هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق، فلا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء فيقول: أداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه؛ فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا عليهم،
وذكر أن محمد بن السائب كان من أهل السنة، فقال: نذهب نسمع من هؤلاء فما رجع حتى أخذ بها وعلقت في قلبه. ا هـ. ومثله كثير.
والهوى: كل ما خالف الحق، وللنفس فيه حظ ورغبة من الأقوال والأفعال والمقاصد، فالهوى ميل النفس إلى الشهوة، ثم يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية !!
فميل النفس إلى الثناء ومدح الناس وتعظيمهم إياه وطلب الرفعة عليهم في رئاسة أو صفة هو الهوى.
وقد ذم الله اليهود لاتباعهم لأهوائهم، حيث قادهم ذلك إلى تبديل شرع الله والكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من الوحي.
وسبب ذلك اتباعهم لأهوائهم، قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} (البقرة: 87)، وقال تعالى: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} (المائدة:70)،
فاتباع الهوى هو أصل الضلال والكفر، ومعلوم أن ذلك يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن اتباع الهوى ما يوصل إلى ما ذكر، ومنه ما هو أقل من ذلك، وكل من خالف الحق لا يخرج عن اتباعه للهوى أو الاعتماد على الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} (النجم: 23)، فإن كان يعتقد أن قوله صحيح وله فيه حجة يتمسك بها فغايته اتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا وتكون حجته شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة لم يميز بين حقها وباطلها، فإذا ميز الحق فيها عن الباطل زال الاشتباه.
ومما يجب أن يعلم أن الله – تعالى – لم يقص علينا في القرآن الكريم قصص السابقين إلا لنعتبر بها لما فينا من الحاجة إلى ذلك، ولما فيه من المصلحة، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا ما يقع لنا وما يكون فينا على ما وقع من السابقين وحصل لهم من جراء ذلك.
ولولا أن في نفوس كثير من الناس أو أكثرهم ما كان في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه بقول أو فعل أو سجية كامنة في النفس تنتظر الخروج، ولكن الواقع مثل ما قال الله تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} (البقرة: 118)، وقوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} (الذاريات: 52)، وقال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} (فصلت: 43)، وقوله: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} (التوبة:30)، أي قولهم يماثل قول من سبقهم بالكفر ويشابهه،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟»، والقذة: ريشة السهم، وهي ما يشبه رصاصة البندقية (اليوم)، فكل واحدة تكون مساوية للأخرى، فالمعنى أنكم تكونون مثلهم بأفعالهم سواء بسواء.
وفي الحديث الآخر: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك»،
بمعنى الأول تماما، وكثير من الناس يدعو إلى أن يكون شريكا لله تعالى في طاعة الأمر واتباعه، بل التعظيم! وإن كان لا يستطيع أن يصرح بذلك، ولكن هذا كامن في نفسه، وهذا غاية الظلم والجهل، وكل نفس – إلا ما شاء الله – فيها على الأقل شعبة من ذلك، إن لم يعن الله العبد ويهديه، وإلا ظهر ذلك من نفسه ووقع فيما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب قدرته وسلطانه.
قال بعض السلف: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر.
والعاقل إذا تعرف على أحوال النفس، ونظر في أخبار الناس، وجد أن كل واحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب حاله وقدرته، فالنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه! فمعبوده ما يريده ويهواه … كما قال تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} (الفرقان: 43)، فمن وافق هواه واستمع لأقواله واتبعه صار صديقا له مقربا منه، وإن كان عاصيا لله تعالى بل ربما وإن كان مشركا كافرا، ومن لم يوافقه فيما يهواه كان عدوا وإن كان من أولياء الله المتقين، والتفاوت في هذا بين الناس كبير، فكثيرمن المسلمين يطلبون طاعتهم في غيرهم، وإن كان في طاعتهم معصية لله تعالى، فمن أطاعهم في ذلك كان أحب إليهم وأعز عندهم ممن أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكثير من الناس يكون في نفسه حب الرئاسة كامنا لا يشعر به، ويخفى عليه، فضلا عن غيره، وعند المقتضيات تظهر هذه الكوامن؛ ولهذا سميت هذه: الشهوات الخفية.
قال شداد بن أوس: « يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية ؟ قال: حب الرئاسة، فهي خفية تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها».
ومن علامات ذلك محبة من يعظمه بقبول قوله أو الاستماع له أكثر من غيره، وإن كان ذلك الغير أطوع لله وأتقى، وهذا يوجد كثيرا حتى في أهل العلم!! فتجد بعض أهل العلم يحب من يعظمه ويطيعه دون أن يعظم من هو نظيره في العلم أو أفضل منه، وإن كانا على منهج واحد، وإنما يتم بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وإن كان ذلك الغير أكثر طاعة لله، وربما أبغض من يشاركه في العلم والاتباع حسدًا وبغيًا.. كفعل اليهود لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى: كفروا به وأبغضوه، قال تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم} (البقرة: 91).
ثم قد يحصل ممن هذا وصفه ظلم وعدوان لمن خالفه في هواه، أو ربما لمن قام ببعض ما يجب عليه لله من نشر علم أو دعوة إلى الله تعالى، فيقف في وجهه صادا عن الحق أو ملبسا الحق بالباطل كفعل علماء اليهود، كما قال تعالى عنهم: {يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} (آل عمران: 71)، ثم تجده يرمي من خالفه بالألقاب المكروهة المنفرة التي تخالف أمر الله ورسوله ابتغاء التفرقة وابتغاء الفتنة، وهو في ذلك يزعم أنه مصلح ودافع للفساد، كما قال الله عن فرعون: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} (غافر: 26)، فهو يزعم أنه هو المصلح والمحافظ على الدين الحارس له من التغيير والتبديل، وأما موسى فإنه ممن يسعى لتغيير الدين والفساد في الأرض!! وهكذا تقلب الحقائق لدى أهل الأهواء ومبتغي العلو في الأرض فيصبح المفسد مصلحا والمصلح حقا لديهم مفسدا، والكفر بالله ومنازعته سلطانه: دينا يجب أن يحمى ويصان، ودين الله يعتبر تغييراً للدين وتبديلا للحق، فتجد هؤلاء يصنفون الناس حسب أهوائهم، فهذا إخواني وذلك سلفي والثالث تبليغي، والرابع سروري...!! وهكذا أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وليست في دين المسلمين، بل هي من دين الجاهلية ومدعاة للعصبية والتفرقة !!
وإن كان اسم «السلفي» قد وردت به الآثار، والمقصود به من اتبع طريقة الصحابة، ومن اقتدى بهم، ومع ذلك فإذا استخدم للتعصب والتحيز إلى فريق معين فإنه يكون ممقوتا في الشرع.
فقد جاء في السيرة في إحدى مغازي النبى صلى الله عليه وسلم «أنه اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا، دعوى أهل الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة». مع أن هذين الاسمين (المهاجرين والأنصار) جاء بهما القرآن، وهما محبوبان لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولما استخدما لنوع من العصبية صار ذلك من فعل الجاهلية، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الدعوى منتنة لأنها تدعو إلى التفرق والتفكك.
وقريب من هذا ما حصل لسلمان يوم أحد، لما رمى أحد المشركين، قال: خذها وأنا الفارسي، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : «قل وأنا الرجل المسلم».
ومثله ما ذكره شيخ الإسلام يرحمه الله تعالى، قال: روينا عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل ابن عباس: أأنت على ملة علي أم على ملة عثمان؟ فقال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «وكذلك كان كل من السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار، ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم: أن هداني الله للإسلام أو أن جنبني هذه الأهواء».
فلا يجوز التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله، مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي، فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلى ولا قرفندي!! بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين المؤمنين عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بهذه الأسماء ولا يوالي عليها ويعادي، بل أكرم الخلق الله أتقاهم من أي طائفة كان. ا هـ.
والواجب على كل من يتكلم في أمر من أمور الدين أن يكون مخلصا لله متجرداً للحق، وغالباً على نفسه بالمجاهدة عن اتباع الهوى وما تميل إليه من حظوظها الدنيوية، كحب الثناء والظهور وكثرة الأتباع، أو ما هو أسوأ من هذا كله، وهو الحصول على شيء من حطام الدنيا.
لاتوجد تعليقات