الهجرة النبوية وواقعنا المعاصر
أحداث السيرة النبوية العظيمة مليئة بالدروس والعبر ولا سيما فيما يتعلق بواقعنا المعاصر، ومن ذلك ولا شك حادثة الهجرة النبوية، وتستعرض بعضاً من تلك الدروس في هذه الحادثة العظيمة:
إدراك الواقع والوعي
إدراك المعاني الشرعية والإيمانية مع إدراك الواقع والوعي به: وقد تمثَّل هذا واضحًا جليًّا في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياته عامة (وفي الهجرة خاصة)، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - على وعي ومعرفة بما هو مقبل عليه في سلمه وحربه، وجهاده ودعوته، وفي تقديره لإمكانات خصومه من حيث العدد والعدة والظروف, ومدى طاقتهم وقدرتهم؛ حتى لا يبني خطته على معطيات غير صحيحة أو ناقصة؛ فلا يتحقق مقصوده وهدفه، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة يدعو إلى الله -تعالى- ويؤصِّل المعاني الشرعية والإيمانية - يعلم بملوك الأرض، ويعلم بالنجاشي ملك الحبشة وأنه ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، وأشار على أصحابه بالهجرة إلى أرضه.
المفهوم الحقيقي للثبات
- المفهوم الحقيقي للثبات والصمود: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (التوبة:41)، «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ لَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، فخرج - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحكمة والمصلحة الشرعية كانت في هذا الخروج والانسحاب من مكة، وكانت في هجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة لا في المعاندة والبقاء فيها والذي كان ربما أفضى إلى قتله والقضاء على دعوته؛ فليست الشجاعة والبطولة مرادفة للتهور والاندفاع وعدم تقدير عواقب الأمور؛ وإلا لَما اختبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في (الغار) وهو أشجع الناس، ولأن المواجهة لم تكن تحقق مقصودًا شرعيًّا.
الحرص على مكتسبات الدعوة
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكتسبات الدعوة والرسالة، وشفقته على جنده وأتباعه: فقد تأخرت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يهاجر حتى اطمأن على أصحابه الذين سبقوه إلى المدينة وظلوا متشوقين إلى هجرته إليهم، ولم يهاجر - صلى الله عليه وسلم - كما هاجر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويقول: من أراد أن تثكله أمه أو يتيتم ولده فليلقني خلف هذا الوادي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أسوة، والناس منهم القوي مثل عمر - رضي الله عنه -، ومنهم الضعيف، وعمر - رضي الله عنه - شخص واحد يتصرف بحسب قوة إيمانه وجرأته.
فضرب - صلى الله عليه وسلم - الأسوة لأمته بنفسه في أخذه بالأسباب في الهجرة، وتستره عن أعين المشركين، وحافظ على دعوته وعلى أصحابه الذين رباهم على عينه، وغرس فيهم غرسه الطيب في: العقيدة، والعبادة، والمعاملة، والتزكية، وأذِن لهم بالهجرة والفرار من أعداء الله ليس للفرار بالنفس فحسب، وإنما كذلك لهدف أسمى وأعظم وهو إقامة الحياة على منهاج الله وشريعته، ونشر دين الله في ربوع الأرض، ولم يزج بهم في مصادمات تستأصل شأفتهم ولا يَنصرون أو يصلحون بها دينًا أو دنيا!
واجب الوقت
الانشغال بواجب الوقت واحترام السنن: كان - صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قومه سيخرجونه من بلدته ومن وطنه الذي هو أحب الأوطان إليه -وإلى كل مسلم-، وكان على موعد معهم في ذلك كما أخبره ورقة بن نوفل - رضي الله عنه -: «يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ!» (متفق عليه)، ومع ذلك لم ينشغل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا... بل ظل يدعو إلى الله صابرًا محتسبًا، يقوم بما يقدر عليه من تقليل الشر والفساد، والدعوة إلى الله بكل مستطاع، فقد كان هذا الذي في قدرته - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن يملك نصرة لأصحابه، ولا لنفسه الشريفة وهو الذي أصابه من أذى قومه وعشيرته ما أصابه، ومع ذلك لم يدعُ - صلى الله عليه وسلم - إلى صدام مع المشركين العتاة في فجورهم وفسادهم، ولم يأمر بذلك، وإنما كان يقوم بما أقدره الله عليه.
لاتوجد تعليقات