رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد إبراهيم منصور 8 فبراير، 2021 0 تعليق

الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية – العمل عند التعارض بين المصالح والمفاسد

 

ما زال الحديث مستمرًا حول الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية وقد ذكرنا أن تقدير المصالح والمفاسد ليس أمرًا هينًا، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه منضبط بضوابط الشَّرع ونصوصه وقواعده، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن تعريف المصالح والمفاسد، واعتبار مقادير المصالح والمفاسد، وتعارض المصالح والمفاسد، واليوم نتكلم عن العمل عند التعارض بين المصالح والمفاسد، وأدلة اعتبار المصالح والمفاسد.

العمل عند التعارض بين المصالح والمفاسد

     يقول شيخ الإسلام: فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوؤهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.

الأمر الأول

- فالأول: كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع.

الأمر الثاني

- والثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على مواقيتها». قلت: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين». قلت: ثم أي؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله» وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع.

الأمر الثالث

- والثالث: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان: {يا أيُّها الذينَ آمَنوا إذا جاءَكُمْ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ}، وكتقديم قتل النفس على الكفر، كما قال -تعالى-: {والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ}؛ فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر لدفع ما هو أعظم ضررًا منها، وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير، وكذلك في (باب الجهاد) وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراماً؛ فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق، وفي أهل الدار من المشركين يبيتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضاً بقتل من لا يجوز قصد قتله.

الأمر الرابع

- وأما الرابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه، ولأن البرء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء، فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة.

إذا ازدحم واجبان

     وقال: فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: أنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاءً وهذا باب التعارض باب واسع جدا، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم؛ فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء.(المنتخب من كتب شيخ الاسلام ابن تيمية ج1 /139).

أدلة اعتبار المصالح والمفاسد

الدليل الأول

قول الله -تعالى-: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (108: الاٌنعام). وقد ذكر أئمة التفسير كلامًا في تفسير هذه الآية، نذكر منه ما يلي:

تجنب المفسدة الأعظم

      يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «يقول -تعالى- ناهيًا لرسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهى مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين وهو الله لا إله إلا هو» كما قال على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قالوا: «يامحمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك» فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (تفسير ابن كثير2/200).

ضرب من الموادعة

وقال الإمام القرطبي -رحمه الله-: «في هذه الآية أيضًا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، وفيها دليل على أن المُحِقّ قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين» (تفسير القرطبي 7/61).

الترك أولى

      وقال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: «وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس!».

الطاعة التي تسبب مفسدة

      وقال الزمخشري: «وَلاَ تَسُبُّواْ (الآلهة) الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ، وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله -تعالى-: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء: 98): لتنتهينّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك، وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا؛ لئلا يكون سبهم سببا لسبّ الله -تعالى-، فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهي عنه، وإنما يصحّ النهي عن المعاصي قلت: ربّ طاعة عُلِمَ أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النهي عن ذلك النهي، كما يجب النهي عن المنكر». (تفسير الكشاف ج 2 /53).

الدليل الثاني

      ما ورد في سورة الكهف من خرق الخضر للسفينة قال -عز وجل-: { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) (الكهف: 71). وكان تعليل الخضر لخرق السفينة كما أخبر ربنا -عز وجل- {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف: 79)، قال القرطبى: وكان (أي الملك) يأخذ كل سفينة جيدة غصبا؛ فلذلك عابها الخضر وخرقها، ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه.

الحكمة بخرق السفينة

     وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله: فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة، الحديث.(تفسير القرطبى ج 11/36)، فالخضر هنا أفسد بعض المال بيده لينجو المال كله، فإن قال قائل كيف يقاس على فعل الخضر والخضر كان عنده من العلم في هذه المسألة ما ليس عند نبي الله موسى -عليه السلام؟

- الجواب: إن الذي لا يقاس عليه هو طريق العلم بمآل الأمر، فإذا علم بالتجربة والواقع أن مآل المال كله إلى الفساد ويمكن استنفاذه بإفساد بعضه، شرع ذلك قياسًا على فعل الخضر الذي أفسد بعض المال لاستنقاذ الكل، قال شيخ الإسلام: وقصة الخِضْر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع اللّه وأمره، ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدرًا كما يظنه بعض الناس، بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع، بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرما مطلقا، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع، وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع.

فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد، فيحرمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل، وهو مباح في الشرع باطنا وظاهرا لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته.(مجموع الفتاوى 3 /208)

      وقال: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانُوا فِي طَرِيقٍ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَإِنْ لَمْ يُرْضُوهُمْ بِبَعْضِ الْمَالِ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَمَنْ قَالَ لِتِلْكَ الْقَافِلَةِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا لِهَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي مَعَكُمْ لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا حِفْظَ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَنْهَى عَنْ دَفْعِهِ وَلَكِنْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا قَالَ لَهُمْ ذَهَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَسُلِبُوا مَعَ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُشِيرُ بِهِ عَاقِلٌ فَضْلًا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الشَّرَائِعُ فَإِنَّ اللَّهَ -تعالى- بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. (مجموع الفتاوى30 /359-357)

الدليل الثالث

قول الله -تعالى- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: 219).

      قال البغوي قوله -تعالى-: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، قرأ حمزة والكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة، وقرأ الباقون بالباء، فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائدة:91) {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وارتفاق الفقراء به. والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء. تفسير البغوي (1/253).

لا خير يساوي فساد العقل

      قال الشوكاني رحمه الله قوله -تعالى-: {وإثمهما أكبر من نفعهما} أخبر -سبحانه- بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع؛ لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر؛فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم. (فتح القدير1/335)

      وقد ورد هنا التفصيل في الآيات المتعلقة بالخمر والميسر، وقد كان يكفي المنع منهما ليمتنع الصحابة -رضي الله عنهم-، إلا أن هذه التفصيل ورد ليقرر قاعدة الشرع المطردة: أن الله -عز وجل- ينهي عن الفساد، وأن الفساد ليس مقتصرًا على ما كانت مفسدته خالصة، بل يشمل أيضا ما كان يحتوي على بعض المنافع والمصالح، لكن مفسدته أغلب فيمنع لأجل ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك