الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية – أدلة اعتبار المصالح والمفاسد
ما زال الحديث مستمرًا حول الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية، وقد ذكرنا أن تقدير المصالح والمفاسد ليس أمرًا هينًا، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه منضبط بضوابط الشَّرع ونصوصه وقواعده، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد التشريع الإسلامي، وميَّزوا بين أولويات الأحكام، وعرفوا خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدِّموا عند التزاحم خيرَ الخيرين وشر الشرين في العمل، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن أدلة اعتبار المصالح والمفاسد وذكرنا منها ثلاثة أدلة واليوم نكمل ما بدأناه.
الدليل الرابع
ما ورد في سورتي القصص والشعراء في شأن قتل نبي الله موسى -عليه السلام- للرجل المصري، قال -تعالى-: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (القصص: 19).
تقييم الموقف
انظر كيف كان نبي الله موسى -عليه السلام- يُقيِّم الموقف؛ فهناك ظالم وهو الرجل المصري، ومظلوم وهو رجل من بني إسرائيل الذين هم شيعة موسى -عليه السلام-، والذين استعبدهم فرعون ومالؤوه، وأذاقوهم الويلات؛ فانحاز موسى للدفاع عن المظلوم ودفع عدوه، لكن الدفع جاء بأكثر مما يلزم فمات الظالم، وهنا ترتبت مفاسد، منها: أنَّ هؤلاء الأعداء سيتخذون هذا الأمر ذريعة لقتل موسى -عليه السلام- الذي يعد سندًا قويًا لبني إسرائيل في ظل هذه الدولة الظالمة، وبالفعل بدأت محاولة القتل؛ مما اضطر موسى -عليه السلام- للفرار إلى مدين، وبقي فيها عشر سنين، ومن هذه المفاسد أيضًا أن هؤلاء القوم الظالمين سيتخذون هذا الأمر تكأة لتسويغ بطشهم وظلمهم لبني إسرائيل، ومن هذه المفاسد أيضًا أن فرعون وملأه لن ينسوا هذا الحادث لعشرات السنين، وسيتخذونه ذريعة للصد عن سبيل الله، ومنع الدعوة، وسيشنع فرعون بها على موسى، قال الله -تعالى-: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} (الشعراء)، ولك أن تعجب من إنصاف موسى -عليه السلام- بإقراره بأن هناك خطأ، وسيظل يذكر هذا إلى قيام الساعة، ففي حديث الشفاعة أن موسى -عليه السلام- يقول -حين يأتيه الناس يستشفعون به-: إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها.
الدليل الخامس
ما حدث في صلح الحديبية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - برغم أنه كان معه ألف وأربعمائة مقاتل بايعوه على الموت، وكان يمكنه أن يجتاح مكة، ويدخل الحرم، إلا أنه كانت هناك اعتبارات كثيرة؛ من أجلها لم يقدم على هذا، ووافق على صلح ظنه الفاروق عمر من باب إعطاء الدنية في ديننا، وكان من هذه الاعتبارات ما يلي:
(1) اعتبار تعظيم حرمات الله
ففي قصه الغزوة أن الجيش حين بلغ الحديبية، بركت الناقة ولم تتحرك، فقال بعض الصحابة خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت به.
(2) اعتبار وجود بعض من يخفي إسلامه في مكة
ولعل بعضهم يقتل بسيوف المسلمين وهم لا يعلمون، قال -عز وجل-:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهذا من أرقى وأعلى درجات تعظيم أمر الدماء.
(3) اعتبار أمر يعظمه العرب
وهو استهجانهم أن يجتاح رجل قومه ويستأصلهم؛ ولذلك قال عروة بن مسعود -وهو أحد مبعوثي- قريش للتفاوض مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟
(4) اعتبار الحفاظ على حياة من معه
الحفاظ على الفئة المؤمنة ليواصل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوة إلى الله -تعالى- ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - للخزاعي: “فإن شاؤوا ماددتهم مدّة، ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر عليهم فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا».
(5) اعتبار تأمين جبهة شرسة
وهي جبهة قريش التي تعد رأس الحربة على الاسلام؛ فتأمينها -ولو لفترة- يعطي الفرصة للانطلاق في الدعوة إلى الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، ويوفر مناخاً يمكن للعرب فيه أن يستمعوا إلى صوت العقل والحكمة؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للخزاعي: «فإن شاؤوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس». كل هذه الاعتبارات جعلت الصلح فتحا مبينا، مع أنه أحاط به من الأمور التي قال عمر الفاروق -رضي الله عنه بسببها-: «ألسنا على الحق؟ فلم نعط الدنية في ديننا؟».
النظر إلى المآلات
يقول الدكتور ياسر حسين: لابد من النظر إلى المآلات، وهل فيم نفعله تعظيم لحرمات الله أم تضيع لها؟ وهل في ذلك مصلحة للدين أم تضييع له؟ وقد قبل - صلى الله عليه وسلم - شروطاً ظالمة جائرة ليتمم الصلح، ويقبل - صلى الله عليه وسلم - أن يرد أبا جندل بن سهيل تنفيذا للعهد - رغم أنهم قد يفتنونه في دينه - وقد أتى سيرًا (171) كيلومترا يرسف في قيوده، وهو مسجون مظلوم، ينادي المسلمين: «يا معاشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك، فيفتنوني في ديني؟ فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله -عز وجل- جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا»,(رواه احمد بسند حسن) ليكون الفتح المبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}(الفتح:1).
فوائد صلح الحديبية
قال ابن القيم في معرض الكلام عن فوائد صلح الحديبية وَمِنْهَا: أَنّ مُصَالَحَةَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَدَفْعِ مَا هُوَ شَرّ مِنْهُ فَفِيهِ دَفْعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.
مقدمة بين يدي الفتح الأعظم
ومنها: أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه، وهذه عادة الله -سبحانه- في الأمور العظام التي يقضيها قدرا وشرعا أن يوطِّئ لها بين يديها مقدمات تؤذن بها وتدل عليها.
كانت فتحًا عظيمًا
ومنها: أن هذه الهدنة كانت فتحًا عظيمًا؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل؛ ولهذا سماه الله فتحا مبينا، قال ابن قتيبة: قضيت لك قضاء عظيما وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية. (زاد المعاد 3/274/275).
دفعًا لمفاسد عظيمة
وقال العز بن عبد السلام: فإن قيل: لم التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟ قلنا: التزم ذلك دفعا لمفاسد عظيمة، وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة لا يعرفهم أهل الحديبية، وفي قتلهم معرة عظيمة على المؤمنين، فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين، وكذلك فإن الله -عز وجل- أخر القتال لمصلحة عظيمة، وهي إسلام جماعة من الكافرين، فقال: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي في ملته التي هي أفضل رحمته، وقال: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لو تفرق بين المؤمنين والكافرين وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا بالقتل والسبي منهم عذابا أليما. (قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/108-109).
لاتوجد تعليقات