رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد إبراهيم منصور 22 فبراير، 2021 0 تعليق

الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية – أدلة اعتبار المصالح والمفاسد (4)

ما زال الحديث مستمرًا حول الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية، وقد ذكرنا أن تقدير المصالح والمفاسد ليس أمرًا هينًا، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه منضبط بضوابط الشَّرع ونصوصه وقواعده، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد التشريع الإسلامي وميَّزوا بين أولويات الأحكام، وعرفوا خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدِّموا عند التزاحم خيرَ الخيرين وشر الشرين في العمل، وقد تحدثنا في الحلقتين الماضيتين عن أدلة اعتبار المصالح والمفاسد، وذكرنا منها خمسة أدلة، واليوم نكمل ما بدأناه.

الدليل السادس

      ما رواه البخاري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ، بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ». وقال البخاري -مترجما لهذا الحديث-: باب (من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقع في أشد منه). قال ابن حجر: وَفِي الْحَدِيث مَعْنَى مَا تَرْجَمَ لَهُ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَظِّم أَمْر الْكَعْبَة جِدًّا، فَخَشِيَ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَظُنُّوا لِأَجْلِ قُرْب عَهْدهمْ بِالْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيَّرَ بِنَاءَهَا لِيَنْفَرِد بِالْفَخْرِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَرْك الْمَصْلَحَة لِأَمْنِ الْوُقُوع فِي الْمَفْسَدَة، وَمِنْهُ تَرْك إِنْكَار الْمُنْكَر خَشْيَة الْوُقُوع فِي أَنْكَر مِنْهُ، وَأَنَّ الْإِمَام يَسُوس رَعِيَّته بِمَا فِيهِ إِصْلَاحهمْ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. (فتح الباري ج 1/201).

حَدِيث بِنَاء الْكَعْبَة

     وقال أيضا: وَفِي حَدِيث بِنَاء الْكَعْبَة مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ مَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّف فِي الْعِلْم وَهُوَ «تَرْك بَعْض الِاخْتِيَار مَخَافَة أَنْ يَقْصُر عَنْهُ فَهْم بَعْض النَّاس «وَالْمُرَاد بِالِاخْتِيَارِ فِي عِبَارَته الْمُسْتَحَبّ، وَفِيهِ اِجْتِنَاب وَلِيّ الْأَمْر مَا يَتَسَرَّع النَّاس إِلَى إِنْكَاره وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّد الضَّرَر عَلَيْهِمْ فِي دِين أَوْ دُنْيَا، وَتَأَلَّفَ قُلُوبهمْ بِمَا لَا يُتْرَك فِيهِ أَمْر وَاجِب وَفِيهِ تَقْدِيم الْأَهَمّ فَالْأَهَمّ مِنْ دَفْع الْمَفْسَدَة وَجَلْب الْمَصْلَحَة، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِدَفْعِ الْمَفْسَدَة، وَأَنَّ الْمَفْسَدَة إِذَا أُمِنَ وُقُوعهَا عَادَ اِسْتِحْبَاب عَمَل الْمَصْلَحَة. (فتح الباري ج 5/237).

دليل لقواعد من الأحكام

     قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - عليه السلام - مصلحة ولكن تعارضه مفسده أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيما؛ فتركها - صلى الله عليه وسلم - ومنها فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك، ومنها تأَلُّفُ قلوب الرعية وحسن حياطتهم، وألا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي كما سبق (شرح مسلم ج 9/89)

الدليل السابع

      ما رواه البخاري -رحمه الله- عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ؛ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ، قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوا؟ وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. قال القاسمي في (محاسن التأويل) واستند -غير واحد من الأئمة- في الحكمة عن كفه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر - رضي الله عنه -: «أكره أن يتحدث العرب أنّ محمداً يقتل أصحابه»، ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفيرٌ لكثيرٍ من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم - بأنّه لأجل كفرهم - فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه.

الصَّبْر عَلَى بَعْض الْمَفَاسِد

     وقال النووي: قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ لَا يَتَحَدَّث النَّاس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُل أَصْحَابه» فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحِلْم، وَفِيهِ تَرْك بَعْض الْأُمُور الْمُخْتَارَة، وَالصَّبْر عَلَى بَعْض الْمَفَاسِد خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ، وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَتَأَلَّف النَّاس، وَيَصْبِر عَلَى جَفَاء الْأَعْرَاب وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ لِتَقْوَى شَوْكَة الْمُسْلِمِينَ، وَتَتِمّ دَعْوَة الْإِسْلَام، وَيَتَمَكَّن الْإِيمَان مِنْ قُلُوب الْمُؤَلَّفَة، وَيَرْغَب غَيْرهمْ فِي الْإِسْلَام،(شرح مسلم ج 8/392). قال الشاطبي: ومنها: الترك للمطلوب خوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب، كما جاء في الحديث عن عائشة: «لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض»، وفي رواية: «لأسست البيت على قواعد إبراهيم»، ومنع من قتل أهل النفاق، وقال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».(الموافقات ج 9/133).

     قال شيخ الإسلام: ومن هذا الباب إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من الأعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكبر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه (الاستقامة 2ج/219).

الدليل الثامن

     ما ورد في الصحيحين: أن أعرابياً بال في طائفة من المسجد، فزجره الصحابة -رضي الله عنهم- وقالوا: مَهْ مَهْ! قال رسول الله: «لا تُزْرِمُوه - أي: لا تقطعوا بوله - دعوه»؛ فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن»، فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلْوٍ من ماء فشنّه - صبه - عليه قال ابن حجر في فتح الباري: «أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة؛ وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، وقال الـنووي فـي شـرح مسـلم: «فـيه دفع أعظم الضررين باحتـمال أخفـهـما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: دعوه». قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوه» لمصلحتين:

- إحداهما: أنه لو قُطِع عليه البول تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أَوْلى من إيقاع الضرر به.

- الثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجّست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد.

الدليل التاسع

     ما رواه البخاري عن ابن مسعود قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا، قال العيني: قوله: كراهية السآمة: أي لأجل كراهة الملالة، وكان ذلك رفقا من النبي لأصحابه، فيجب أن يقتدى به، لأن التكرار يسقط النشاط، ويمل القلب وينفره. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج 33/170) قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الِاقْتِصَاد فِي الْمَوْعِظَة، لِئَلَّا تَمَلّهَا الْقُلُوب فَيَفُوت مَقْصُودهَا. (شرح مسلم ج 9/207(، وقال: «وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق -سبحانه وتعالى-، ويثمر القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة».(شرح مسلم ج 6/71).

الدليل العاشر

     ما أخرجه مسلم من حديث طويل عن ابي هريره - رضي الله عنه - أن عمر - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم قال: فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فخلهم، قال ابن حجر فَكَأَنَّ قَوْله - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذٍ: «أَخَاف أَنْ يَتَّكِلُوا «كَانَ بَعْد قِصَّة أَبِي هُرَيْرَة، فَكَانَ النَّهْي لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ مُعَاذ لِعُمُومِ الْآيَة بِالتَّبْلِيغِ. وَاَللَّه أَعْلَم. (فتح الباري ج1/205).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك