رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد إبراهيم منصور 16 مارس، 2021 0 تعليق

الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية – قواعد لها علاقة بالمصالح والمفاسد والموازنة بينهما

ما زال الحديث مستمرًا حول الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية، وقد ذكرنا أن تقدير المصالح والمفاسد ليس أمرًا هينًا، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه منضبط بضوابط الشَّرع ونصوصه وقواعده، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد التشريع الإسلامي وميَّزوا بين أولويات الأحكام، وعرفوا خير الخيرين وشرَّ الشرَّين، وقد تحدثنا في الحلقات الماضية عن أدلة اعتبار المصالح والمفاسد واليوم نتكلم عن القواعد التي لها علاقة بالمصالح والمفاسد والموازنة بينهما.

القاعدة الأولى: اعتبار القدرة والعجز

      خلاصة القاعدة أن المطالبة بالتكاليف الشرعية منوطة بالقدرة على أدائها، وأن العاجز عنها غير مطالب بها، قال -عز وجل- {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال -تعالى-: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، والمعجوز عنه لا يطالب به المكلف، والعجز إما لكونه عجزا حسياً كالعاجز عن النطق بالنهي عن المنكر، لأنه أبكم مثلا، وإما أن يكون عجزًا معنويًا كأن يكون قادرًا حسيًا لكن يغلب على ظنه حدوث مفسدة أعظم فيمتنع عن النهى، ومن هنا كانت علاقة هذه القاعدة بالموازنة بين المصالح والمفاسد.

استقراء الكتاب والسنة

      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزًا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فلابد من أمرين ليتحقق التكليف، الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل، وبناء على هذا فإن المعجوز عنه ساقط الوجوب والمضطر إليه غير محظور.

      وقال -رحمه الله-: «فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد،»لا تكليف الا بمقدور»، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب».

القاعدة الثانية: تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما

     أي إِذَا دارَ الأَمْرُ بينَ فعلِ إحدى المصلحتيْنِ وتفويتِ الأُخْرَى؛ بحيثُ لا يمكنُ الجمعُ بينهُمَا، رُوعِيَ أَكبرُ المصلحتين وأَعلاهُمَا فَفُعِلَتْ، فهنا توجد القدرة لكن أمامه مصلحتان ولا يقدر إلا على تحصيل واحدة منهما، ولا يستطيع الجمع بينهما، فمع أن الأصل تحصيل جميع المصالح وتكميلها إلا أنه عند التعارض فإنه يفوت أدني المصلحتين ليتمكن من تحصيل أعلاهما، قال العز بن عبدالسلام في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد: «إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل، لقوله -تعالى-: {فَبِشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.

الأصل في هذا الباب

      والأصل في هذا الباب قوله -تعالى-: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن وَدُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ حيث أرشـدت الآية إلى أن المصلحة العظيمة في ترك سب المشركين تفوق ما يحصله المسلمون من سب آلهة المشركين، قال ابن القيم: فحرم الله -تعالى- سبَّ آلهة المشركين مع كون السب غيظاً وحمية لله وإهانة لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله -تعالى-، وكانت مصلحة ترك مسبته -تعالى- أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل التصريح بالمنع من الجائز؛ لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز.

      وقال شيخ الإسلام: «فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما؛ فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركَ واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرَّمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما؛ لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة... وهذا باب التعارض باب واسع جداً».

القاعدة الثالثة:  ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما

     يعني: أن المفاسدَ إذا تعارَضَت؛ بحيث لابدَّ من وقوعِ المكلَّفِ في بعضِها، فيرتكبُ المكلَّفُ أدنى المفاسدِ وأقلَّها، ويدفعُ أعلاها وأقْواها، فإذا تزاحمت المفاسد؛ بحيث لا يتمكن المرء من ترك المفسدتين معاً، وإنما يتمكن من ترك إحداهما بشرط ارتكاب الأخرى، فحينئذٍ يرتكب المفسدة الأقل من أجل درء المفسدة الأعلى. ومن أدلة هذه القاعدة: قوله -جل وعلا-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فهنا تعارضت مفسدتان:

المفسدة الأولى: تلف النفس.

والمفسدة الثانية: الأكل من الميتة.

      فيتجنب المكلف المفسدة الأشد، ولو كان في ذلك ارتكاب المفسدة الأقل بأكل الميتة، فالمسلم يوازن في الأمور المختلطة التي لا تصفو لجانب واحد، ويرجح خير الخيرين، ويختار أهون الشرين؛ لأن الحياة ليست دائما اختيارًا بين خير خالص وشر خالص، بل إن الانسان كثيرًا ما يجد نفسه مخيرا بين خير وخير، وشر وشر، أو بين شيء فيه بعض الخير وبعض الشر، بل الإنسان قد يجد نفسه في ظرف غير طبيعي، تكون عاقبة فعل ما -هو في العادة خير- شرا فماذا يفعل؟

      نقول عليه أن يختار أقل الأمرين شرا؛ لأنه إذا كان غرضه الخير فإن أقل الأمرين شرا هو الأقرب إلى الخير والدليل على ذلك قوله -تعالى-: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فإن الله أباح للمؤمن التفوه بكلمة الكفر إذا هدد بالقتل أو بغيره من الأمور التي يصعب عليه تحملها التي معها يكون قد اختار أهون الشرين. وحديث الرجل الذي بال في المسجد يدل على ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم  - رأى أن في تركه حتى يكمل بوله ضررًا أخف من قطع بوله عليه؛ لأن في قطع البول ضررًا أشد كتنجيس بدنه وثيابه والمسجد واحتباس بوله.

وقول يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}؛ فاختار السجن بدلاً من الوقوع في الفاحشة.

     وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: «وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل حرام باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أشد حرمة.

القاعدة الرابعة: قاعدة اعتبار المآلات

قال في القاموس القويم في الاصطلاحات الأصولية: «مآلات الأفعال معناها أن يأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه، سواء أكان الفاعل يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده».

      ويقول الإمام الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا -كانت الأفعال موافقة أو مخالفة- وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة». (الموافقات5/177-178)، أي أنَّ المجتهد لا يقوم بالحكم على التصرف قولاً كان ذلك التصرف أو فعلاً إلاَّ بعد أن ينظر في مآله ونتائجه، ويقدر ما سيتمخض عنه تطبيق ذلك التصرف من المصالح والمفاسد والخير والشر وبعد ذلك يصدر الحكم على التصرف بالمشروعية أو عدم المشروعية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك