رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: القاهرة: د. أحمد عبدالحميد 23 يوليو، 2017 0 تعليق

الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية- أدلة اعتبار المصالح والمفاسد


 

لا شك أن تحصيل المصالح ودفع المفاسد أصل أصول الشريعة؛ إذ إن الشريعة إنما جاءت لتحصيل مصالح العباد الدينية والدنيوية، ودفع المفاسد عنهم، وقد ثبت هذا المعنى يقينًا من مقاصد الشارع الحكيم في تنزيله، وتضافرت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والنظر في المآلات واعتبارها كذلك أصلا من أصول الفقه جارٍياٍ على مقاصد الشريعة؛ لذلك فإنه لابد لنا من معرفة هذا الأصل لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ متى نصرّح؟ ومتى نلمَّح؟ وحتى لا نكون عبئًا على الأمة الإسلامية أو ثغرة تؤتى من قبلها؛ لذلك كانت هذه السلسلة من المقالات، ونستكمل اليوم الكلام عن أدلة اعتبار المصالح والمفاسد.

الفساد ليس مقتصراً على ما كانت مفسدته خالصة

- الدليل الثالث: قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} سورة البقرة، قال البغوي قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، قرأ حمزة والكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة، وقرأ الباقون بالباء؛ فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة.

     {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(91-المائدة) {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وارتفاق الفقراء به.

      والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء. (تفسير البغوى (1/253) قال الشوكاني -رحمه الله- قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} أخبر -سبحانه- بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع؛ لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم. فتح القدير(1/335) وقد ورد هنا التفصيل في الآيات المتعلقة بالخمر والميسر وقد كان يكفي المنع منهما ليمتنع الصحابة -رضي الله عنهم- إلا أن هذا التفصيل ورد ليقرر قاعدة الشرع المطردة أن الله -عز وجل- ينهي عن الفساد، وان الفساد ليس مقتصراً على ما كانت مفسدته خالصة بل يشمل أيضا ما كان يحتوي على بعض المنافع والمصالح لكن مفسدته أغلب فيمنع لأجل ذلك.

قتل نبي الله موسى للرجل المصري

- الدليل الرابع: ما ورد في سورتي القصص والشعراء في شأن قتل نبي الله موسى للرجل المصري {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} القصص.

     انظر كيف كان نبي الله موسى -عليه السلام- يقيم الموقف فهناك ظالم هو ذلك الرجل المصري، ومظلوم هو ذلك الرجل الذي هو من بني اسرائيل الذين هم شيعة موسى الذين استعبدهم فرعون وملؤه وأذاقوهم الويلات فانحاز موسى للدفاع عن المظلوم ودفع عدوه لكن الدفع جاء بأكثر مما يلزم فمات الظالم، وهنا ترتبت مفاسد منها أن هؤلاء الأعداء سيتخذون هذا الأمر ذريعة لقتل موسى نفسه الذي يعد سندا قوياً لبنى اسرائيل في ظل هذه الدولة الظالمة، وبالفعل بدأت محاولة القتل؛ مما اضطر موسى -عليه السلام- للفرار إلى مدين، وبقي فيها عشر سنين، ومن هذه المفاسد أيضا أن هؤلاء القوم الظالمين سيتخذون هذا الأمر تكأة لتسويغ بطشهم وظلمهم لبنى اسرائيل.

     ومن هذه المفاسد أيضا أن فرعون وملأه لن ينسوا هذا الحادث لعشرات السنين ويتخذونه ذريعة الصد عن سبيل الله ومنع الدعوة، وسيشنع فرعون بها على موسى {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} الشعراء، ولك أن تعجب من إنصاف موسى -عليه السلام- بإقراره بأن هناك خطأ؛ ففي حديث الشفاعة أن موسى -عليه السلام- يقول حين يأتيه الناس يستشفعون به إنى قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها.

صلح الحديبية

- الدليل الخامس: قصة صلح الحديبية، فمع أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان معه ألف وأربعمائة مقاتل بايعوه على الموت، وكان يمكنه بهم أن يجتاح مكة ويدخل الحرم، إلا انه كانت هناك اعتبارات كثيرة من أجلها لم يقدم على هذا، ووافق على صلح ظنه الفاروق عمر من باب إعطاء الدنية في ديننا وكان من هذه الاعتبارات:

- اعتبار تعظيم حرمات الله؛ ففي قصه الغزوة أن الجيش حين بلغ الحديبية بركت الناقة ولم تتحرك فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت به.

- اعتبار وجود بعض من يخفي إسلامه من المستضعفين في مكة ولعل بعضهم يقتل بسيوف المسلمين وهم لا يعلمون قال -عز وجل-: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهذا من أرقى وأعلى درجات تعظيم أمر الدماء.

- اعتبار أمر يعظمه العرب وهو استهجانهم أن يجتاح رجل قومه ويستأصلهم، ولذلك قال عروة بن مسعود وهو أحد مبعوثي قريش للتفاوض مع النبي -صلى الله عليه وسلم -: أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟.

- اعتبار الحفاظ على حياة من معه ليواصل بهم الدعوة إلى الله؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم - للخزاعي: «فإن شاؤوا ماددتهم مدّة، ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر عليهم فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا».

- اعتبار تأمين جبهة شرسة وهي جبهة قريش التي تعد رأس الحربة على الإسلام؛ فتأمينها ولو لفترة يعطي الفرصة للانطلاق في الدعوة إلى الإسلام فى جميع أنحاء الجزيرة العربية، ويوفر مناخاً يمكن للعرب فيه أن يستمعوا إلى صوت العقل والحكمة؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم - للخزاعى: «فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس». كل هذه الاعتبارات جعلت الصلح الذي يحافظ عليها فتحا مبينا مع أنه أحاط به من الأمور التى قال عمر الفاروق - رضي الله عنه- بسببها «ألسنا على الحق فلم نعطي الدنية في ديننا».

عدم نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه

     الدليل السادس: ما رواه البخارى عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ0وقال البخارى مترجما لهذا الحديث باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقع فى أشد منه قال ابن حجر وَفِي الْحَدِيث مَعْنَى مَا تَرْجَمَ لَهُ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَظِّم أَمْر الْكَعْبَة جِدًّا، فَخَشِيَ -صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَظُنُّوا لِأَجْلِ قُرْب عَهْدهمْ بِالْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيَّرَ بِنَاءَهَا لِيَنْفَرِد بِالْفَخْرِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَرْك الْمَصْلَحَة لِأَمْنِ الْوُقُوع فِي الْمَفْسَدَة، وَمِنْهُ تَرْك إِنْكَار الْمُنْكَر خَشْيَة الْوُقُوع فِي أَنْكَر مِنْهُ، وَأَنَّ الْإِمَام يَسُوس رَعِيَّته بِمَا فِيهِ إِصْلَاحهمْ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. (فتح البارى ج 1 /201) وقال أيضا. وَفِي حَدِيث بِنَاء الْكَعْبَة مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ مَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّف فِي الْعِلْم وَهُوَ « تَرْك بَعْض الِاخْتِيَار مَخَافَة أَنْ يَقْصُر عَنْهُ فَهْم بَعْض النَّاس» وَالْمُرَاد بِالِاخْتِيَارِ فِي عِبَارَته الْمُسْتَحَبّ، وَفِيهِ اِجْتِنَاب وَلِيّ الْأَمْر مَا يَتَسَرَّع النَّاس إِلَى إِنْكَاره وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّد الضَّرَر عَلَيْهِمْ فِي دِين أَوْ دُنْيَا، وَتَأَلَّفَ قُلُوبهمْ بِمَا لَا يُتْرَك فِيهِ أَمْر وَاجِب. وَفِيهِ تَقْدِيم الْأَهَمّ فَالْأَهَمّ مِنْ دَفْع الْمَفْسَدَة وَجَلْب الْمَصْلَحَة، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِدَفْعِ الْمَفْسَدَة، وَأَنَّ الْمَفْسَدَة إِذَا أُمِنَ وُقُوعهَا عَادَ اِسْتِحْبَاب عَمَل الْمَصْلَحَة. (فتح البارى ج 5/237)، قال الإمام النووى وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم - مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا؛ وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما فتركها -صلى الله عليه وسلم - ومنها فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا إلا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة، وإقامة الحدود، ونحو ذلك، ومنها تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وألا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي كما سبق (شرح مسلم ج 9/89).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X