رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: القاهرة: د. أحمد عبدالحميد 30 يوليو، 2017 0 تعليق

الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية- أدلة اعتبار المصالح والمفاسد

 

 

لا شك أن تحصيل المصالح ودفع المفاسد أصل أصول الشريعة؛ إذ إن الشريعة إنما جاءت لتحصيل مصالح العباد الدينية والدنيوية، ودفع المفاسد عنهم، وقد ثبت هذا المعنى يقينًا من مقاصد الشارع الحكيم في تنزيله، وتضافرت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والنظر في المآلات وعدها كذلك أصلا من أصول الفقه جارٍٍ يا على مقاصد الشريعة؛ لذلك فإنه لابد لنا من معرفة هذا الأصل لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ متى نصرّح؟ ومتى نلمَّح؟ وحتى لا نكون عبئًا على الأمة الإسلامية أو ثغرة تؤتى من قبلها، كانت هذه السلسلة من المقالات، واليوم نستكمل أدلة المصالح والمفاسد.

الحكمة عن كفه -صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين

- الدليل السابع: ما رواه البخارى عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَوَقَدْ فَعَلُوا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.

      قال القاسمى (محاسن التاويل) واستند - غير واحد من الأئمة - في الحكمة عن كفه -صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم - قال لعمر -رضي الله عنه-: «أكره أن يتحدث العرب أنّ محمداً يقتل أصحابه». ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفيرٌ لكثيرٍ من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم - بأنّه لأجل كفرهم - فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه. وقال النووى قَوْله -صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ لَا يَتَحَدَّث النَّاس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُل أَصْحَابه» ِفيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحِلْم، وَفِيهِ تَرْك بَعْض الْأُمُور الْمُخْتَارَة، وَالصَّبْر عَلَى بَعْض الْمَفَاسِد خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ، وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم - يَتَأَلَّف النَّاس، وَيَصْبِر عَلَى جَفَاء الْأَعْرَاب وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ لِتَقْوَى شَوْكَة الْمُسْلِمِينَ، وَتَتِمّ دَعْوَة الْإِسْلَام، وَيَتَمَكَّن الْإِيمَان مِنْ قُلُوب الْمُؤَلَّفَة، وَيَرْغَب غَيْرهمْ فِي الْإِسْلَام،(شرح مسلم ج 8 /392).

     قال الشاطبى: ومنها: الترك للمطلوب خوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب؛ كما جاء في الحديث عن عائشة: «لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض»، وفي رواية: «لأسست البيت على قواعد إبراهيم»، ومنع من قتل أهل النفاق، وقال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».(الموافقات ج 9 /133).

     قال شيخ الاسلام ومن هذا الباب إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من الأعوان؛ فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزاله معروف أكبر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه. (الاستقامة 2ج/219).

قصة بول الأعرابي في المسجد

- الدليل الثامن: ما ورد في الصحيحين: أن أعرابياً بال في طائفة من المسجد، فزجره الصحابة -رضي الله عنهم - وقالوا: مَهْ مَهْ! قال رسول الله: «لا تُزْرِمُوه - أي: لا تقطعوا بوله - دعوه»؛ فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن»، فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلْوٍ من ماء فشنّه - صبه- عليه قال ابن حجر في فتح الباري: «أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة؛ وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسر أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. وقال الـنووي فـي شـرح مسـلم: «فـيه دفع أعظم الضررين باحتـمال أخفـهـما لقوله - صلى الله عليه وسلم  -: دعوه». قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوه» لمصلحتين:

- إحداهما: أنه لو قُطِع عليه البول تضرر وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أَوْلى من إيقاع الضرر به.

- الثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجّست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد، والله أعلم.

الِاقْتِصَاد فِي الْمَوْعِظَة

- الدليل التاسع: ما رواه البخارى عن بن مسعود قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا قال فى عمدة القارى: قوله كراهية السآمة أي لأجل كراهة الملالة وكان ذلك رفقا من النبي لأصحابه فيجب أن يقتدى به؛ لأن التكرار يسقط النشاط، ويمل القلب وينفره (عمدة القارى شرح صحيح البخارى ج 33/170).

      قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الِاقْتِصَاد فِي الْمَوْعِظَة، لِئَلَّا تَمَلّهَا الْقُلُوب فَيَفُوت مَقْصُودهَا (شرح مسلم ج 9/207)، وقال: «وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق -سبحانه وتعالى- ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة».(شرح مسلم ج 6/71).

قصة بعث النبي لأبي هريرة

- الدليل العاشر: ما أخرجه مسلم من حديث طويل عن أبى هريره -رضي الله عنه- أن عمر -رضي الله عنه- قال للنبى -صلى الله عليه وسلم - قال يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة ؟ قال نعم قال فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فخلهم. قال ابن حجر: فَكَأَنَّ قَوْله -صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذٍ: «أَخَاف أَنْ يَتَّكِلُوا» كَانَ بَعْد قِصَّة أَبِي هُرَيْرَة، فَكَانَ النَّهْي لِلْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ؛ فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ مُعَاذ لِعُمُومِ الْآيَة بِالتَّبْلِيغِ . وَاَللَّه أَعْلَم .(فتح البارى ج1/205).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك