
الموازنات بين المصالح المفاسد في السياسة الشرعية
الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا
لا شك أن تحصيل المصالح ودفع المفاسد أصل أصول الشريعة إذ إن الشريعة إنما جاءت لتحصيل مصالح العباد الدينية والدنيوية، ودفع المفاسد عنهم، وقد ثبت هذا المعني يقينًا من مقاصد الشارع الحكيم في تنزيله، وتضافرت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والنظر في المآلات وعدها كذلك أصلا من أصول الفقه جارٍٍ على مقاصد الشريعة، لذلك فإنه لابد لنا من معرفة هذا الأصل لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ ومتى نصرّح؟ ومتى نلمَّح؟ وحتى لا نكون عبئًا على الأمة الإسلامية أو ثغرة تؤتى من قبلها، لذلك كانت هذه السلسلة من المقالات.
تعريف المصالح والمفاسد
المصالح لغة: تطلق ويراد منها الفعل الذي فيه صلاح ونفع، وفي الاصطلاح:هي عند جمهور الأصوليين: الثمرة المترتبة على الأحكام التي شرعها الله لعباده، وكما عرفها الإمام الغزالي: المصلحة: جلب منفعة أو دفع مضرة، ثم قال: ونعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة (المستصفى1/174).
المفسدة: ما قابل المصلحة وهي وصف للفعل يحصل به الفساد أي الضر دائمًا أو غالبًا للجمهور أو للآحاد، وعرفها ابن عاشور بقوله: المفسدة ما في وجوده فساد وضرر وليس في تركه نفع زائد على السلامة من ضرره.
أنواع المصالح
تنقسم المصلحة إلى قسمين:
- الأولى: مصلحة عامة ويقصد بها ما فيه صلاح عموم الأمة أو الجمهور.
- الثانية: مصلحة خاصة ويقصد بها ما فيه نفع لآحاد الناس مثل الحجر على السفيه لحفظ ماله.
وكذلك المفاسد تنقسم الى مفاسد عامة يعم ضررها ومفاسد خاصه يقتصر ضررها على فرد أو أفراد قلائل.
مراعاة المصالح والمفاسد مطلب شرعى
وذلك لان الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، يقول شيخ الاسلام: «الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَأَنَّهَا تُرَجِّحُ خَيرالْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَتَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا»، وكذلك فإن الموازنة بين المصالح والمفاسد مما اتفقت عليه الشرائع ووافق العقل فيه الشرع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأمَّا سُقُوطُ الْوَاجِبِ لِمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا؛ وَإِبَاحَةُ الْمُحَرَّمِ لِحَاجَةِ فِي الدُّنْيَا؛ كَسُقُوطِ الصِّيَامِ لِأَجْلِ السَّفَرِ؛ وَسُقُوطِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ فَهَذَا بَابٌ آخَرُ يَدْخُلُ فِي سِعَةِ الدِّينِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ؛ بِخِلَافِ الْبَابِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ جِنْسَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِي أَعْيَانِهِ بَلْ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَيَنْشُدُ: إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا مِنْ جِسْمِهِ مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الْأَخْطَرَا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ الطَّبِيبَ مَثَلًا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيَةِ الْقُوَّةِ وَدَفْعِ الْمَرَضِ؛ وَالْفَسَادُ أَداةٌ تَزِيدُهُمَا مَعًا؛ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ عِنْدَ وُفُورِ الْقُوَّةِ تَرْكُهُ إضْعَافًا لِلْمَرَضِ وَعِنْدَ ضَعْفِ الْقُوَّةِ فِعْلُهُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ إبْقَاءِ الْقُوَّةِ وَالْمَرَضِ أَوْلَى مِنْ إذْهَابِهِمَا جَمِيعًا؛ فَإِنَّ ذَهَابَ الْقُوَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْهَلَاكِ.
فالمصلحة: مطلب شرعي لأن شرع الله مصلحة كله, وهي هدف أسمى في الشريعة الإسلامية إلا أن المصلحة مسألة نسبية وليست مطلقة وهي تختلف من حال إلى حال, ومن شيء إلى شيء ومن زمان إلى زمان وما من شيء فيه مصلحة إلا فيه في الغالب مضرة إلى جانب تلك المصلحة.قول الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونكَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} سورة البقرة، إذا لابد من الرجوع إلى الشرع الحنيف لمعرفة المصالح والمفاسد حتى نعمل بما فيه مصلحة غالبة ونبتعد عما فيه مضرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر, وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالاتها على الأحكام».
وقال ابن القيم: «إن الشريعة مبناها وأساسها العدل وتحقيق مصالح العباد في المحاسن والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن ادخلت فيها بالتأويل».
تعارض المصالح والمفاسد
قال النووي في شرح مسلم تعليقا على حديث: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس منه وباباً منه يخرجون». وفي الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدأ بالأهم؛ لأن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضت مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدون من فضل الكعبة فيرون عدم تغيرها فتركها صلى الله عليه وسلم .
أمن الوقوع في المفسدة
وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: «ويستفاد منه ترك المصلحة لامن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرمًا».
وقال شيخ الإسلام: «إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة: كان في تركها مضار، والسيئات منها مضار وفي المكروه بعض حسنات فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما, فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوءهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لايمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة». مجموع الفتاوى (2/37).
ازدحام المصالح والمفاسد
وقال أيضاً: «وجماع ذلك داخل في القاعدة إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهي -وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته».
قال العز بن عبدالسلام: «إذا اجتمت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالآ لأمر الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وإن تعذر الدرء والتحصيل فان كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالى بفوات المصلحة، قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}؛ حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصّلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استويت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما».
ويقول ابن القيم: «وإن تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فات أدناها، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان وإن تزاحمت عطل أعظمها فسادًا باحتمال أدناها». مفتاح دار السعادة 22/2.
وقال الإمام الشاطبى: المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد فالتكليف كله إما لدرء مفسدة أو لجلب مصلحه أو لهما معًا. الموفقات (1/199) وللحديث بقية إن شاء الله.
لاتوجد تعليقات