المنهج السلفي في الجماعة والإمامة وأثره على واقع المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن الله -سبحانه وتعالى- بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، والعالم عامة والعرب خاصة يعيشون في جاهلية جهلاء وعصبية بغيضة، فبعث الله رسوله وأخرجهم به من الظلمات إلى النور.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (البقرة:257)
ولقد كانت الإمامة والجماعة واضحتي المعالم، بينتي المنهج، قويتي البنيان، مهابتي الجانب متينتي الأسس في صدر الإسلام، ثم وقع فيهما الانحراف، عبر جماعات متطرفة غالية، كان شرارتها وبدايتها فكر الخوارج، واستمر الأمر على ذلك حتى عصرنا الحاضر، الذي تفاعلت فيه الاتجاهات وتضاربت فيه التيارات وتصارعت فيه الجماعات بطريقة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، ورغم هذا وذاك إلا أن الله -جل وعلا بفضله ومنته- هيأ لنا ولاية راشدة، وأقام دولة عزيزة فتية قوية مهابة الجانب، هي المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، تمثل الدولة الإسلامية الحقيقية المنطلقة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف هذه الأمة بطريقة لا يعرف لها نظير في عالمنا المعاصر ورغم ذلك لم تسلم من حسد الحاسدين وحقد الحاقدين وفكر دعاة السوء وأرباب الضلال والفتنة، الذين حاولوا ويحاولون جاهدين وبكل وسيلة وأسلوب ومنهج وطريقة النيل من جماعتها وألفتها وإمامتها والمتمثلة بولاة أمرها وحكامها الأماجد الأفذاذ.
وقد منّ الله عليّ ووفقني أن أكتب في أماكن متعددة وأزمنة مختلفة عن دعوة الإسلام إلى الاجتماع والجماعة وتحذيره من الخلاف والفرقة، وما يجب لولاة الأمر من الحقوق وما عليهم من الواجبات مستمدا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة وما نقل عن التابعين وعلماء الأمة، ثم نظمتها وجمعتها في كتاب أسميته: (مفهوم الجماعة والإمامة ووجوب لزومها وحرمة الخروج عليهما في ضوء الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح) وذلك بيانا للحق والحقيقة في هاتين المسألتين المهمتين، وردا على أهل الأهواء والتأويل والشبهة.
ثم شرفت هذه الجامعة العريقة جامعة المؤسس الأول لدولة السنة وحامية منهج السلف المملكة العربية السعودية بالموافقة السامية على إقامة الندوة المباركة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) فلم يكن لي أن أتأخر عن المشاركة فيها، وهي الندوة العلمية التي تؤصل لهذا الأصل العظيم، وتبرز الركائز والمعالم والأسس السلفية التي تقوم عليها دولتنا المباركة ووطننا الحبيب المملكة العربية السعودية، وتجيب عن شبه المعارضين والمناوئين، وتميز المنهج في صورته الحقة، وتنفي عنه دخن الملبسين، وشبه المتطرفين، وتأويل الغالين، وقد وقع اختياري على ما يبرز البعد الشرعي والوطني في صورة الجماعة القائمة والمتمثلة في ولاة أمرنا الأماجد وشعبهم الوفي ورأيت أن يكون عنوانه (المنهج السلفي في الجماعة والإمامة وأثره على واقع المملكة العربية السعودية). سائلا الله -عز وجل- أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفع بها، ويجعلنا ممن لزموا جماعة المسلمين، وسمعوا وأطاعوا لولاة أمرهم بالمعروف، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويجعل علمنا وعملنا خالصاً له سبحانه، ويهدينا لما اختلف فيه من الحق.
المراد الشرعي بالجماعة:
قيل: هم القوم الذي يجتمعون على الاستمساك بالكتاب والسنة، ويؤثرون كلام الله -تعالى- على كلام كل أحد، ويقدمون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد.
وقيل: هي جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير يسمع له ويطاع.
مفهوم الجماعة:
الجماعة في الإسلام تطلق على مفهومين:
الجماعة الصغرى: جماعة الصلاة وهي تتألف من إمام ومأمومين مأمورين باتباع الإمام ومتابعته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «إنما جعل الإمام ليؤتم به..»(أخرجه البخاري)، كما يتحمل عنهم القراءة، لقوله صلى الله عليه وسلم : «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»(أخرجه ابن ماجه في السنن)، ولذلك فإنهم يتبعونه في كل شيء، وهذه الجماعة دليل وتوجيه على الإمامة الكبرى، وتربية شرعية على لزومها، وطاعة ولي الأمر فيها، والالتزام بكل واجباتها.
الجماعة الكبرى:
هي التي ينتظم فيها أفراد الأمة إذا كانت مجتمعة، أو أفراد البلد الواحد فيما سوى ذلك، وهم مأمورون بالقيام بحقوقها وأداء واجباتها والانتظام فيها.
أهمية الجماعة وضرورتها:
الجماعة ضرورة محتمة؛ لأن الإنسان يوصف بالحرث، وله إرادة، ويحب ويبغض، وهذه الأمور لا يحققها الإنسان لوحده بل لا بد له ممن يعينه عليها، وهذه الجماعة لا بد لها من دين ونظام تجتمع عليه، ولا بد أيضاً من وجود من يسير هذا النظام وهو ولي الأمر. والناس لا يستقلون بجلب منفعة ما يحتاجون إليه أو دفع مضرته، وهذا دينهم العام الذي يشتركون فيه، وأما اختصاص كل واحد منهم بمحبة ما يأكله ويشربه فهم يشتركون في نوعه لا في شخصه؛ولذا فإن الأمور التي يحتاجونها لا بد أن يوجبوها على أنفسهم إن كانت نافعة ومحققة لمصلحتهم أو يحرموها إن كانت ضارة، وهذا هو دينهم وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك وهو التعاقد والتعاهد. وهذا قد يكون ديناً باطلاً فاسداً عند رجحان المفسدة، وقد يكون حقاً عند رجحان المنفعة.
وهذا الاجتماع لا يكون إلا باجتماعهم على أمير لهم يسمعون له ويطيعون، وتكون له الغلبة والسلطة عليهم حتى يدفع بعضهم عن بعض، فلا يضر أحدهم غيره بعدوانه.
الجماعة حفاظ على الهوية:
فمبدأ وجود الجماعة يدل على وجود الهوية الإسلامية، وفقدها فقد للهوية، بل إن الإسلام لا يوجد إلا بالمجتمع المسلم، ولا مجتمع إلا بالجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بطاعة.
قال عمر رضي الله عنه : «إنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة»(أخرجه الدرامي في سننه).
أساس الجماعة:
أساس الجماعة وأصل الائتلاف المانع من الوقوع في إرهاب الفتن هو التوحيد وإخلاص العبادة لله المؤدي إلى تطبيق شريعة الله.
حكم لزوم جماعة المسلمين:
واجب شرعي دل عليه الكتاب والسنة والعقل.
حكم الخروج على جماعة المسلمين:
يحرم الخروج على جماعة المسلمين لأي سبب من الأسباب وبأي وسيلة من الوسائل قولية أو فعلية؛ لأن في ذلك تفريقاً وتمزيقاً للأمة والمجتمع ومخالفة صريحة للكتاب والسنة.
الأدلة على وجوب لزوم الجماعة وحرمة الخروج عليها من القرآن الكريم:
1- قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..} (آل عمران:103) فقوله {بحبل الله} فسر (الحبل) بالجماعة، وقد جاء في حديث افتراق الأمة: «وما هذه الواحدة؟ فقبض رسول الله [ يده وقال: الجماعة وقرأ الآيه».
وقوله: {ولا تفرقوا} أي التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف كالافتراق في الفتن وفي العقائد.
2- قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء: 115).
3- قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا منَ الْمُشْركينَ (31) منَ الَّذينَ فَرَّقُوا دينَهُمْ وَكانُوا شيَعًا} (الروم: 31-32).
4- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (الأنعام:159).
5- قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13).
6- مخاطبة الله للمؤمنين بلفظ الجمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران:102).
الأدلة من السنة النبوية:
1- قوله صلى الله عليه وسلم : «إن أهل الكتاب تفرقوا قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» (أخرجه أحمد وصححه الألباني)، وفسرها صلى الله عليه وسلم بقوله: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (أخرجه الترمذي).
2- حديث حذيفة رضي الله عنه : «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟، قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن»، قلت وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟، قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». (أخرجه البخاري).
الأدلة من الآثار:
1- قال عمر رضي الله عنه : «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحدوهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة». (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
2- وقال الأوزعي رحمه الله: «كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد». (أخرجه اللالكائي).
3- أجاب ابن عمر -رضي الله عنهما- على رجل كتب إليه يسأله عن العلم قائلا: «إنك كتبت إلي تسألني عن العلم، والعلم أكبر من أن أكتب به إليك، ولكن إن استطعت أن تلقى الله وأنت خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازما لجماعتهم فافعل» (أخرجه ابن عساكر).
4- وقال نعيم بن حماد -رحمه الله-: «إذا فسدت الجماعة فعليك بما كنت عليه قبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة» (أخرجه ابن عساكر).
الدليل العقلي:
يدل العقل السليم على أن الجماعة حق، والفرقة زيغ، وأن الجماعة أمر ضروري لازم لأي أمة،؛ لأن الإنسان مهما أعطي من قوة لا يمكن أن يعيش وحده، ويحقق مصالحه الدينية والدنيوية بأي حال وأي مكان إلا بوجود جماعة يسند بعضهم بعضا.
يكون لزوم الجماعة بأمرين:
1- بالاجتماع على دين الله عقيدة ومنهجا وعملا وسلوكا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
2- بلزوم إمام المسلمين، وبذل حقوقه، وعدم نكث البيعة فضلا عن الخروج عليها، فكل داعية بدعة أو خارج على الجامعة فهو منابذ لها واقع في الفتن.
لاتوجد تعليقات