رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 30 أغسطس، 2021 0 تعليق

المنجيات من الفتن

 

قال الشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر في محاضرته حول المنجيات من الفتن في كلامه على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن السعيد لمن جنب الفتن»: بعد أن ذكر الضابط الأول وهو تحقيق تقوى الله -عز وجل-: من الضوابط التي يكون بها تجنّب الفتن، بعد لزوم كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم ، والاعتصام بهما، والنهَل من معِينهما، قال -تعالى-: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران:101)، ويقول -جل وعلا-: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران:103)، وحبل الله -جل وعلا- هو دينه وكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم .

 

الشيخ عبدالرزاق عبدالمحسن البدر

السنة سفينة نوح

     وأضاف الشيخ البدر، لِتجنّب الفتن لابدّ من الاعتصام بالكتاب والسنة، قال الإمام مالك -رحمه الله - (إمام دار الهجرة): «السنة سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تركها هلك وغرق»، وفي خِضِمِّ الفتن المتلاطمة والأمواج العظيمة سبيل النجاة بركوب هذا المركب المبارك (سنه نبيه الكريم) - صلى الله عليه وسلم - اعتصاماً بكتاب الله وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم .

إرشادٌ نبويٌّ مبارك

     وأشار الشيخ إلى إرشاد نبوي مبارك في حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

المخرج عند وجود الاختلاف

     وتأمَّل قوله في الحديث: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» وأنتَ عندما تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» لابدّ وأن تتساءل عن المخرج عند وجود الاختلاف، وسبيل النجاة عند نزولها، فأرشدك - صلى الله عليه وسلم - إلى المخرج دون أن تسأل؛ قال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»؛ فأرشدك - صلى الله عليه وسلم - إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا التمسك بالكتاب والسنة نجا السلف الأخيار والصحابة الأبرار من الشرور والفتن، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله-: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوَّلها»؛ بماذا صلح أوَّل الأمة؟ بماذا صلح الصحابة ومن اتّبعهم بإحسان؟ أبغير الكتاب والسنة؟! حاشا والله، صلاحهم كان باهتدائهم واقتدائهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه-، فالكتاب والسنة عصمةٌ ونجاةٌ.

الضابط الثالث: لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة

     من الضوابط المهمة لتجنب الفتن التي ذكرها الشيخ البدر: لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة؛ لأنّ الجماعة -كما قال - صلى الله عليه وسلم - رحمةٌ والفُرْقَةُ عذابٌ، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الجماعة رحمةٌ والفُرْقَةُ عذابٌ»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ»، والأحاديث في الدعوة إلى لزوم الجماعة والبُعْدِ عن الفرقة كثيرةٌ جداً، ولهذا لابدّ على المرء المسلم أن يروِّض نفسه على لزوم جماعة المسلمين وعدم التفرُّق؛ فإنّ الفُرْقةَ شرٌّ، ولزوم جماعة المسلمين يترتَّب عليها مصالح عظيمةٌ وغاياتٌ كريمةٌ؛ لأنّ المسلمين إذا لَزِم كل واحد منهم الجماعة يكون بذلك قوة الرابطة، وقوة الكلمة، ووحدة الصَّف والتئام الشمل، ويكون لهم الهيبة والمكانة، بينما إذا تفرَّقوا واختلفوا تشتتَ أمرُهم وتَسلَّط عليهم عدُّوهم، وعَظُمتْ بينهم الشرور والفتن، لكن إذا كانوا يداً واحدةً قَوِيتْ شوكتُهم وعَظُمتْ مكانتُهم، و«يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ»، والله -عز وجل- يمد الجماعةَ بعونِه وتوفيقِه ماداموا مجتمعِين على الحقِّ والهدى وطاعة الله واتِّباع سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلابدّ من لزوم جماعة المسلمين، ومن الاجتماع على الحقِّ والهدى، ولابدّ من البُعدِ عن التفرُّق والاختلاف، ولابدّ من اعتصامٍ صادقٍ بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا الذي يؤلِّف بين القلوب، ويجمع بين أهل الحقِّ والهدى.

الضابط الرابع: الرجوع إلى العلماء الربانيين

     وأضاف الشيخ البدر من الضوابط النافعة والمفيدة للسلامة من الفتن: الرجوع إلى العلماء الربانيين المحقِّقِين، والفقهاء المدقِّقِين، الضالعِين في العِلم، المشهود لهم بالإمامة والفضل والخيريَّة، فالمسلم لا يرجع إلى كلِّ أحدٍ، ولا يسألُ كلَّ إنسانٍ، ولا تُعرَضُ النَّازِلَةُ على كلِّ متحدِّثٍ، وإنما الرجوع في النوازل والفتن إلى العلماء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» والمراد بالأكابر: أي في العلم والحق والهدى، والذين مكثوا دهرا طويلا في العلم تعلُّماً وتعليمًا وتفقيهًا للناس، وظهر فيهم الحِلْم والأناة والرزانة والشفقة على الأمة، فأمثال هؤلاء إليهم يرجع الإنسان، ولا يرجع لكلِّ أحدٍ، ولهذا عندما يرجع الناس في الفتن إلى كل أحدٍ ينشقُّ صفُّهم، وتَختلُّ كلمتُهم، وتتضارَبُ آراؤهم، وتقع بينهم المشكلات العظيمة، لكن إذا رجعوا إلى العلماء الضالِعِين والأئمة الراسخين تحقَّق لهم الخير بإذن الله -جل وعلا.

قاعدة عظيمة

     وانظر الإرشاد إلى هذا في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:83)، فالله -جل وعلا- قال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ}، أي أهل العلم الراسخين المحقِّقين، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}؛ لأنهم أهل الفقه والاستنباط والرزانة والأناة، فإليهم يُرجع، وهم الذين يُستَفتَون، وعلى فتواهم يُعوَّل، أمّا أن يسأل الإنسان كلَّ أحدٍ ويَستفتي كلَّ إنسانٍ فهذه مصيبة، وهذا سببُ تشقُّقِ الناس وتخلخل صفِّهم وانتشار الخلاف والفُرقة بينهم، لكن إذا كان رجوعهم إلى العلماء الراسخين والأئمة المحصلين فإنهم -بإذن الله جل وعلا- سيكونون على خير.

الضابط الخامس: الرفق والأناة وعدم العجلة

     أما الضابط الخامس الذي ذكره الشيخ -ويعد من الأمور المهمة والضوابط العظيمة لاجتناب الفتن-: الرفق، والأناة، وعدم العجلة، والبعد عن التسرُّع؛ وفي الرِّفق خيرٌ وبركةٌ؛ بل إنّ الرفق خير كلُّه، بل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».

     فمن صفات المؤمن الرفق والأناة وعدم التعجُّل، بينما إن كان المرء مندفعاً في تصرفاته، عجِلاً في أموره، متسرِعاً في رأيه وفي مسلكه وفي طريقه فإنّ عجلتَه وتسرُّعَه يَجرُّ عليه وعلى الآخرين من الشرور والأضرار ما لا يُعلم مداه ولا يُعلم نهايته ولا عقباه، وقد جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال - وتأمَّلوا معي كلمته -: «إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة»، ما معنى التؤدة؟ يعني الرِّفق والأناة وعدم العجلة، «فعليكم بالتؤدة، فإنك أن تكون تابعاً في الخيرِ خيرٌ من أن تكون رأساً في الشرّ»؛ المتسرِّع قد يُدلِي برأيٍ بسبب تسرُّعِه إلى نفرٍ من الناس فيتْبعونه على رأيه، ثم ماذا تكون النتيجة؟ يكون قدوةً وإماماً في الشرِّ؛ لأنه فتح على نفسه باب الشرِّ وفتحه أيضا على غيره.

     وأضاف، تأمّل في هذا الباب ما رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ»، فالمسلم يلازِم الرفق والأناة، ويبتعد عن العجلة والتسرُّع، وقد مرّ معنا قبل قليل قول علي - رضي الله عنه -: «ليسوا بالعُجُل»، يعني أهل الحقِّ بعيدون عن العجلة، بل فيهم الأناة والرفق والهدوء والطمأنينة والتروِّي والبُعد عن العجلة وملازمة الرفق دائماً وأبدًا، هذا شأن أهل الحقِّ والهدى؛ فهذا ضابطٌ مهمٌّ للسلامة من الفتن.

الضابط السادس: حسن الصلة بالله

     ثم بين الشيخ البدر أن حسن الصلة بالله ودعاءه -جل وعلا- والإقبال الصادق عليه؛ من وسائل النجاة من الفتن، والله -عز وجل- لا يردُّ عبداً دعاه ولا يُخيِّبُ عبداً ناجاه، وهو القائل -سبحانه-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }(البقرة:186)، وهو القائل -سُبْحَانَهُ-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60)، وقد مرّ معنا الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، فقال الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، فيُقبِل المسلم على الله -جل وعلا- يدعوه، ويدعو لنفسه ولإخوانه بالخير والسلامة والعافية والوقاية من الفتن والشرور، يكون داعياً لنفسه وإخوانه، هذا شأن المؤمن، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(الحشر:10)، قال الله -جلا وعلا-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }(محمد:19)، فهذا لابدّ منه، الدعاء والسؤال بصدق، وربما ينكشف عن المسلمين مِن الهموم والغموم والمِحَنِ والفتن بدعوةٍ صادقة في وقت إجابة من مؤمنٍ صادقٍ يدعو لنفسه ولإخوانه بالخير والرحمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الدعاء مفتاح كلِّ خير في الدنيا والآخرة»، يعني أي خير تريده في الدنيا والآخرة فعليك بهذا المفتاح المبارك الذي هو الدعاء.

الدعاء مفتاح كلِّ خيرٍ

     ثم قال الشيخ البدر: لماذا كان الدعاء مفتاح كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة؟ يقول أحد السلف: «تأمّلتُ الأمر فوجدتُ بدايته من الله، ونهايته إلى الله، والمتصرِّف في هذا الكون هو الله، والكلُّ بيده وتحت تصريفه -سُبْحَانَهُ وَتعالى- ؛ فعلمتُ أنه لا خير إلا منه «؛ لأنّ مفاتيح كلِّ خيرٍ بيده -سُبْحَانَهُ وَتعالى- فيُقبِل المسلم على الله -جل وعلا- إقبالاً صادقاً يدعوه ويرجوه ويؤمّل منه ويُلحُّ عليه -جل وعلا- بكلِّ خير له ولإخوانه.

الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير

     ومن جانبه استعرض الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير عن العبادة في زمن الفتن، التي بين فيها أن الأمَّـة تعيش حالة من الاضطراب عموما، وهذا أثر على بعض من طلبة العلم فكثير منهم ضاقت بهم الأرض ذرعًا، وظنوا أن الخيـر قـد انقطع، ثم أكد الشيخ أن الأمر على خلاف ذلك، فديننا دين الخلود والبقاء إلى قيام الساعة، وأبواب الخير مفتوحة ومشرعة، وسنة المدافعة باقية إلى قيام الساعة، وما يغلق بـاب فـي وجه مسلم إلا ويفتح االله له أبوابا وآفاقا من أعمال الخير التي توصله إلى مرضات االله -سبحانه وتعالى-، ثم تكلم الشيخ عن العبادة ومفهومها وعن تنوع العبادات وأنها من محاسن الإسلام، ثم ذكر الصلاة بوصفها أهم العبادات، ثم بين مفهوم الفتن، والاستعاذة منها، ثم كيف نتقي هذه الفتنة؟

كيف نتقي هذه الفتنة؟

     بين الشيخ الفتنة التي يجب أن يتقيها الإنسان ويستعيذ منها التي جاءت في قول االله -جل وعلا-:{واتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبن الَّذِين ظَلَمواْ مِنكُم خَآصةً واعلَمواْ أَن اللّـه شَـدِيد الْعِقَـابِ} (25: سورة الأنفال). يقول القرطبي: قال ابن عباس -رضي االله عنهما-: أمر االله ألا يقـروا المنكـر بـين أظهرهم؛ فيعمهم العذاب؛ لأن االله -جل وعلا- يقول: {واتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبن الَّذِين ظَلَمـواْ مِـنكُم خَآصـةً واعلموا أَن اللّه شَدِيد الْعِقَابِ}، ثم ذكر الأمور التي من خلالها نتقي هذه الفتنة وهي كالتالي:

الحيلولة بين الظالم وظلمه

     نتقي الفتنة بالحيلولة بين الظالم وظلمه، فإذا حلنا بين الظالم وظلمه فإننا حينئذ جعلنا بيننا وبين هذه الفتنة وقاية، وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول االله -صلى االله عليه وسلم- فقالت: يا رسـول االله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» يعني جاء قول االله -جل وعلا-: {وما كَان اللّه لِيعذِّبهم وأَنت فِيهِم}، فهل الأمر يسري على غيره - صلى الله عليه وسلم - مـن صـالحي هـذه الأمة؟ يعني لا يهلكون وفيهم الصالحون؟ كما ضمن االله -جل وعلا- ألا يعذب هذه الأمة مع وجود نبيهـا - صلى الله عليه وسلم .

وجود الصالحين

     ثم أكد الشيخ أن وجود الصالحين سبب من أسباب دفع البلاء ودفع الفتن بقدر إرثهم من النبوة علماً وعملاً يدفع بهم من الفتن بقدر ذلـك، ولذلك نجد أنه حينما وجد الصالحون من العلماء والعباد والدعاة الأخيار كانت الفتن مدفوعة إلـى حـد مـا؛ بسبب مدافعتهم لها، وبسبب علمهم وعملهم، وبسبب دعواتهم الصالحة.

أنهلـك وفينـا الصالحون؟

     وفي صحيح الترمذي: «أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم االله بعذابٍ من عنده»، لكن الأخذ على يد الظالم بحسب القدرة وبالوسائل المحققة للمصلحة التـي لا يترتـب عليهـا مفسدة، لابد من مراعاة القواعد العامة في النصيحة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خشي أن يترتب عليه منكر أعظم منه فلا شك أن درء المفاسد مقدم على جمع المصالح، ومع ذلك لا بد من الإنكار بالمراتب الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، لكن لا بد مـن التغييـر، وأقـل المراتب التغيير بالقلب.

حديث السفينة

     وفي صحيح البخاري والترمذي، عن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثـل القـائم على حدود االله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها -اسـتهموا يعني بالقرعة، أنت مكانك فوق وأنت مكانك تحت وهكذا بالقرعة- فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فرأوا أن من فوقهم تضايقوا منهم من كثرة المرور عليهم، فقالوا: لو أنا خرقنـا فـي نصيبنا خرقاً؛ بحيث لا نحتاج إلى نمر على من فوقنا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم ومـا أرادوا هلكـوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» هذا المثل النبوي مطابق غاية المطابقة لواقع الأمـة فـي هذه السفينة التي تتلاطم الأمواج من حولها، تدفعها يميناً وشمالاً، وأحياناً إلى الأمام وأحياناً إلى الخلف، فـإن ترك المفسد يعبث لا شك أنهم يهلكون جميعاً، وإن أخذ على يده وأطر على الحق نجا ونجوا جميعاً، فهذا مثل مطابق.

تعذيب العامة بذنوب الخاصة

     في هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بـالمعروف والنهـي عـن المنكر؛ لأنهم -كما تقدم في حديث مسلم- إذا ترك الظالم لم يأخذوا على يد الظالم أوشك االله أن يعمهـم بعذاب من عنده، يقول القرطبي: قال علماؤنا فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عنـد ظهـور المعاصـي وانتشار المنكر، وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم، يعنـي لا يـستطيعون التغيير باليد ولا باللسان أنكروا بالقلب، لكن هل يسوغ لهم أن يبقوا مع هؤلاء العصاة؟ يقول: وإذا لـم تغيـر وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا العاصين، وقـالوا لا نـساكنكم، وبهذا قال السلف -رضي االله عنهم- روى ابن وهب عن مالك أنه قال: «تهجر الأرض التـي يـصنع فيهـا المنكر جهاراً ولا يستقر فيها»، أما إذا استخفى العاصي المذنب بجريمته فهذا لا يضر غير نفسه، الإشكال فيما إذا ظهر المنكر وأعلـن ولـم يوجد من يدافع، أو من يدفع هذا المنكر، فحينئذ يوشك أن يعمهم االله بعذابٍ من عنده.

الهجرة الواجبة

     الهجرة عند أهل العلم منها الواجب، وهي باقية إلى قيام الساعة، فالواجب منها الهجرة من بلاد الكفـر إلـى بلاد الإسلام، فالإقامة في بلاد الكفر لا تجوز حرام إلا لعاجز، إلا المستضعف المستثنى، الـذي لا يـستطيع حيلة، ولم تذكر الحيلة بشيء من النصوص بالإقرار والجواز إلا في هذا الموضع؛ لأن ضـرر البقـاء بـين أظهر المشركين ضرر محض، كثير من المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار الضرر عليهم في أديـانهم وعلى ناشئتهم أظهر، الذين يربون في بلاد الكفر وفي مدارس الكفر ضرر عظيم، لابد أن يهاجر إلا إذا عجز حينئذٍ يعذر، هذه الهجرة الواجبة.

يقــيم بــدار الكفــر غيــر مــصارم

                                                  وقـد بـرئ المعـصوم مـن كـل مـسلمٍ

الهجرة المستحبة

     وأما الهجرة المستحبة فالهجرة إلى البلد الذي فيه الأخيار أكثر وأظهر من بلاد المسلمين، ويتمكن فيـه مـن طلب العلم والعمل والإخلاص والتحقيق لعقيدة التوحيد، الهجرة إلـى مثـل هـذا البلـد مستحبة، على ألا تخلى البلدان الأخرى ممن يدافع، ولذا يقول ابن وهب يروي عن مالك -رحمه االله- أنه قال: «تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها»، وروى البخاري عن ابن عمر -رضي االله عنهما- قال: قال رسول االله -صلى االله عليه وسلم-: «إذا أنـزل االله بقومٍ عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم».

الهلاك العام

     فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين، ومنه ما يكون نقمةً للفاسـقين، يعنـي إذا وجـد المنكر أنكره قوم وسكت آخرون، يعني وجد من يفعل المنكر، أنكره قوم وسكت آخرون، هؤلاء ثلاث فـرق، ثم إذا حلت العقوبة {أَنجينَا الَّذِين ينْهون عنِ السوءِ وأَخَذْنَا الَّذِين ظَلَمواْ بِعـذَابٍ بئِـيسٍ}، فالظلمة هم الذين فعلوا المنكر، وأنجينا الذين ينهون، سواء نجوا بأبدانهم أم لم ينجوا، المقصود أن مآلهم إلى النجاة، سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، وأما الذين ظلموا الذين فعلـوا هـذا المنكر أخذناهم بعذابٍ بئيس.

تساؤل مهم

     قد يقول قائل: االله -جل وعلا- يقول: {ولاَ تَزِر وازِرةٌ وِزر أُخْرى}، ويقـول -جـل وعلا-: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسبتْ رهِينَةٌ}، ويقول -جل وعلا-: {لَها ما كَسبتْ وعلَيهـا مـا اكْتَسبتْ}، وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الـذنب، {ولاَ تَزِر وازِرةٌ وِزر أُخْرى}، {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسبتْ رهِينَةٌ}، يعني لا بما كسب غيره، {لَها ما كَسبتْ وعلَيها ما اكْتَسبتْ} يقول هذا القائل: هذا يوجـب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب.

     فالجواب: أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن المفروض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سـكتوا عليـه فكلهـم عاصٍ، هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل االله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبـة، قاله ابن العربي، الحكم واحد هذا بفعله وهذا برضاه، هذا باقترافه وبما كسبت يده وبوزره الذي ارتكبه، وهـذا بتركـه الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أيضاً منكر.

الطبع على القلوب

     يقول االله -جل وعلا-: {فَلْيحذَرِ الَّذِين يخَالِفُون عن أَمرِهِ أَن تُصِيبهم فِتْنَةٌ أَو يصِيبهم عـذَاب أَلِـيم}، قال ابن عباس: «الفتنة هنا: القتل» وقال عطاء: «الزلازل والأهوال» وقال جعفر بـن محمـد: «سلطان جائر يسلط عليهم» وقيل: «الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم ». وكلها داخلة في مدلول الآية، قد يقتل من يقتل، ويصاب بالزلازل والأهوال من يـصاب، وقـد تكـون هـذه المعاصي وهذه المخالفات سبب في تولي سلطان جائر عليهم، يسلط عليهم يسومهم سوء العـذاب، وقيل: «الطبـع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول -صلى االله عليه وسلم- وهذا أشد، الطبع على القلوب، وأهل العلم يقررون أن مسخ القلوب أعظم من مسخ الأبدان.

 

 

ضوابط النجاة من الفتن

- تقوى الله -عز وجل- والعمل بطاعته

- الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية

- لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة

- الرجوع إلى العلماء الربانيين

-الرفق والأناة وعدم العجلة

- حسن الصلة بالله -تعالى

الاعتصام بالسنة هو النجاة

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة  وقال مالك: «السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق». وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج: هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول: هو الدليل الهادي الخريت في هذا الصراط كما قال -تعالى-: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}. وقال -تعالى-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.

موقف المسلم من الفتن 

العلامة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - 

     قال العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: موقف المسلم من هذه الفتن: أنه يكون على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويلزم ذلك ويصبر عليه، ويكون على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، هذا فيه النجاة من الفتن، وهذا موقف المسلم من الفتن أنه لا ينخدع ولا ينجرف معها، وإنما يبقى على دينه، ويصبر عليه، وله قدوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لاسيما الخلفاء الراشدين المهديين، ومن المنجيات من هذه الفتن وموقف المسلم منها: أنه يلزم جماعة المسلمين وإمام المسلمين الموجودين في عهده، فيكون مع جماعة المسلمين وإمامهم ويبتعد عن الفرق المخالفة.

 العودة إلى منهج سلفنا الصالح

العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - 

     قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: الرجوع إلى السلف الصالح هو ضمان وصيانة من أن يقع المسلمون اليوم في مثل ما وقع المسلمون الذين جاؤوا بعد السلف فاختلفوا اختلافا كثيرا، فدعوتنا التي ندندن حولها دائما وأبدا، أننا ندعو إلى العمل بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، وهذا لدفع ما قد اعترى الكتاب والسنة من الانحراف في فهمها، وبسبب هذا الانحراف وجدت الفرق الإسلامية الكثيرة، كما يشهد لذلك التاريخ الإسلامي وكما تنبأ عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي قال فيه: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة»، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: «هي ما أنا عليه وأصحابي».

 

التمسك بالقرآن والسنة

العلامة عبدالعزيز ابن باز - رحمه الله - 

     قال العلامة عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-: وطريق النجاة من صنوف الفتن هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما روي ذلك عن علي مرفوعا: «تكون فتن، قيل: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله؛ فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم...» الحديث. والمقصود بالفتن: فتن الشهوات والشبهات والقتال، وفتن البدع، كل أنواع الفتن، لا خلاص ولا نجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك