المناهج الخرافية وأثرها في كبوة الأمم (1)
لا يمكن لأمةٍ أن تنهض مِن كبوتها ما لم تتحرر مِن الفكر الخرافي الذي يفسد العقول، ويمنعها مِن النظر الصحيح والاعتبار، وقد أتى الإسلام والعالم كله غارق في الضلالة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقبة قبيل مبعثه؛ فقال: «وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» (رواه مسلم)، وكان هذا ناشئًا عن ضعف أثر الوحي في حياة الناس؛ نظرًا لبعد العهد، وطول الأمد.
والعقل المجرد عن نور الوحي، قد لا يهتدي للإجابة الصحيحة، وإذا اهتدى للإجابة إجمالًا فإنه يعجز عن معرفة كثيرٍ مِن التفاصيل المتعلقة بها، ومِن هنا يلجأ عقله لنسج الأساطير والخرافات؛ لتفسير ما يحدث حوله.
أتى الإسلام بمنهجٍ يقوم على تحرير القلوب مِن التعلق بغير الله، والعقول مِن التعلق بالخرافات؛ فكان الناس في الجاهلية تتعلق قلوبهم بالأموات الصالحين، معتقدين أن لهم منزلة تسوغ عبادتهم مِن دون الله عند الله، وهذا أمر لم يُخص به مشركو العرب الوثنيون؛ بل شاركهم فيه سائر أهل زمانهم حتى عامة أتباع المنتسبين للرسل! فأبطل الإسلام كل ذلك، وأمر بإخلاص العبادة لله وحده، وأنه لا واسطة بيْن الله وخلقه في العبادة، وأنه لا يملك المخلوقون جميعًا لأنفسهم -فضلًا عن غيرهم- ضرًّا ولا نفعًا، نقلهم الإسلام مِن عبادة العبيد والمخلوقين والبشر إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كانت أعظم دعوة تحررية عرفتها البشرية حررتهم مِن كل ما سوى الله -تعالى.
وفي مجال تحرير العقول، عزز الإسلام مِن مكانة العقل، والتفكير العلمي؛ فأمرنا برد الأقوال والعقائد التي لا يقوم عليها برهان، ولا دليل عقلياً أو نقلياً على ذلك، والقرآن مليء بالأمر بالاعتبار والنظر، والتذكر، وإقامة البرهان، وعدم تتبع الظن الذي لا يقوم عليه دليل. وقد كان هذا المنهج الإسلامي في بناء العقل، كافيًا في إبطال الأساطير والخرافات كافة التي كانت سائدة؛ فلم يكن بحاجةٍ لتفنيدها واحدة تلو الأخرى؛ فإنه يكفي في إبطالها عدم قيام الدليل عليها.
ومِن أعظم ما أصَّله الإسلام في ذلك (قاعدة الأسباب)؛ حيث أمر الشرع بالأخذ بالأسباب والحرص عليها، مع التوكل على الله -تعالى- مسببها، وجعل الأسباب على قسمين: ظاهرة تعرف بالتجربة والبحث والعادة، مثل الدواء والغذاء ونحوها، وأسباب باطنة لا تعرف إلا عن طريق الشرع، مثل: الدعاء، والرقية، ونحوها، وعلى كل مَن يثبت سببية شيء ما في الضر أو النفع أن يثبت ذلك بالتجربة والبحث «إن كان سببًا ظاهرًا أو الدليل النقلي الصحيح إن كان السبب باطنًا».
أزيلت الأساطير المنسوجة حول بعض البشر كلها، ووضع كل شيء في حجمه الحقيقي: الرب رب، والعبد عبد مهما بلغ صلاحه، والمسببات مربوطة بأسبابها، والعادة غالبة، والخوارق استثناءات يكرم الله بها بعض عباده، لا يُترك العمل انتظارًا لها.
وما إلا سنوات قليلة وانطلقتْ نهضة لا مثيل لها في التاريخ، ميزتها الرئيسة بناء الإنسان مع تشييد العمران، وفتح القلوب قبْل فتح البلدان، وإقامة الدين والدنيا، وتحول رعاة الغنم إلى قادة للأمم، ولكن كسنة الله الدائمة في النقص بعد الاكتمال، ومع بُعد العهد تنحسر بعض آثار الرسالة، ويحل محلها الخرافة؛ فعادتْ مظاهر تقديس البشر والأموات والأضرحة، وصار الناس يستشفون بزيت قنديل أم هاشم، وتتمرغ طالبة الولد في مقبرة فلان وعلان مِن الأولياء، وغيرها مِن مظاهر التخلف والانحطاط.
لاتوجد تعليقات