رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 14 ديسمبر، 2020 0 تعليق

المقدم: الهداية من أعظم نعم الله على الإنسان


في محاضرة مميزة للشيخ د. محمد إسماعيل المقدم، بين فيها حال العبد بين هموم الدنيا وهموم الآخرة؛ حيث عرض فيها لكتاب بعنوان: (رسالة من غريق)، وقد ذكر في مقدمة كلامه أن الهداية إلى هذا الدين القويم هي أعظم نعم الله على العبد؛ فإنها تخرج العبد من الظلمات إلى النور، من ظلمات التيه والاضطراب إلى نور اليقين والثبات، ومن ظلمات القلق والكآبة إلى نور الطمأنينة والانشراح، ومن ظلمات العبودية للدنيا ورذائلها وسفاسفها إلى نور العبودية لله الواحد القهار، ومن ظلمات الشهوات والشبهات إلى نور العزم وقوة الإرادة والبصيرة، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم. وقد لا يشعر العبد بعظمة هذه الهداية، فعليه أن يعتبر بمن افتقدها ممن يعيش في دياجير الجهل والشهوات والشبهات، وفي ظلمات التيه والاضطراب والشك؛ ليعرف مقدار هذه النعمة.

     روى أبو الدرداء -رضي الله -تعالى- عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما طلعت شمس قط إلا بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان من على الأرض غير الثقلين: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت إلا بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً»، رواه الطيالسي والإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبغوي، وصححه الحاكم، وهذا الحديث فيه الدعوة إلى الإخبات إلى الله -سبحانه وتعالى-، وعدم الانشغال بالدنيا، والاكتفاء منها بالقليل، «فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى».

ذم الدنيا والانغماس فيها

      ثم تحدث الشيخ عن أحوال الناس مع الدنيا فقال: إن الناظر المتفحص لأحوالنا يجد الكثير منا قد جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، يعدو وراءها ويلهث في سبيل تحصليها، كلما نال منها شيئاً ازداد طلبه لها وجريه وراءها علّه ينال منها أشياء أخرى، كما قال الشاعر: فما قضى أحد منها منالته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب فالإنسان الذي يشتغل بالدنيا ويؤجل الأعمال الصالحة إلى أن يفرغ لا يمكن أبداً أن يفرغ؛ لأن آمال الدنيا لا تنتهي، ولا يقضي أحد وطره منها أبداً، فعليه أن يجعل الهموم هماً واحداً، وهو إرضاء الله -سبحانه وتعالى-، فيتولى الله -سبحانه وتعالى- تيسير أمور دينه ودنياه.

أحوالنا في الآخرة

     وأضاف، أما أحوالنا في الآخرة فتجارتها عندنا كاسدة، ولا يلتفت إليها إلا أقل القليل، مع أن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أن الله -سبحانه وتعالى عند الحديث عن الآخرة- يحثنا على السعي الحقيقي إليها، فنتأمل تعبيرات القرآن، كقوله -تعالى-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: 50)، فالذي يفر لابد من أن يكون مسرعاً جداً، وكذلك قوله -تعالى-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 133)، وقال أيضاً: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الحديد: 21)، وقال -تعالى-: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (الصافات: 61)، وقال سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26)، فهناك تنافس أمرنا به، وهناك تنافس نهينا عنه، فأما الذي أمرنا به فهو التنافس في الآخرة، وأما الدنيا فقد قال فيها - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تنافسوا» يعني: في أعراض الدنيا، ومع ذلك فإنك تجد أغلب الناس يتنافسون في الدنيا، ويغفلون عن التنافس في الآخرة.

الأمر بتحصيل الدنيا

     وعن تحصيل الدنيا قال: عند الأمر بتحصيل الدنيا يرشد إلى أنه أهون وأبطأ، كما قال -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (الملك: 15) فلم يقل: اسعوا، أو سابقوا، أو {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ولم يقل أيضاً: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}، ولم يقل فيها: سابقوا إلى الدنيا. وإنما قال: {فَامْشُوا} والمشي يكون أهون وأبطأ. وقال -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} (الجمعة: 10) وحينما تكلم عن صلاة الجمعة في أول الآيات قال -تعالى-: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) أي: بادروا. وأما قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} فهو مجرد انتشار لطلب الرزق الحلال. والحقيقة الباقية والقائمة هي أن القلب لا يتسع أبداً للدنيا والآخرة معاً، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» فهما ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومن ظن أنه سيرضي الاثنتين فقد ظن ما لا يقع أبداً ولا يكون، فإما أن نختار الدنيا وإما الآخرة.

حقيقة الزهد في الدنيا

     وأضاف، ليس معنى الكلام السابق الإعراض الكامل عن الدنيا، وفهم الزهد في الدنيا على أنه الفقر والحرمان والرغبة عنها بالمرة، بل حقيقة الزهد في الدنيا تجريد القلب عن محبتها، فالمسكنة التي يحبها الله -سبحانه وتعالى- من عبده التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبها في قوله: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقه حبه، وحب من يحبه، وأن يرزقه حب المساكين، وأمره الله -تعالى- أن يلزم هؤلاء الذين يريدون وجه الله -سبحانه وتعالى-، وألا يعرض عنهم إلى أصحاب الدنيا كما بين ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم كقوله -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) المسكنة المقصودة هنا ليست مسكنة الفقر؛ لأن الفقر شيء مذموم، ويكفي في ذمه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرنه بالكفر فقال: «أعوذ بك من الكفر والفقر» كما في أذكار الصباح والمساء، فإنّ المال عون على الدين، فإنه يؤدى به فرض الزكاة وغيرها من الفروض، ويستغنى به عن القرض، ويصان به العرض، فالمال -بلا شك- أمر مهم، ولكن المقصود بالمسكنة مسكنة القلب، وهي إخبات القلب وذله وخشوعه وتواضعه لله -سبحانه وتعالى-، وهذه المسكنة لا تنافي الغنى، فيمكن أن يكون الإنسان غنياً مكتفياً وفي نفس الوقت يكون مسكيناً مستكيناً ذليلاً لله -سبحانه وتعالى-، فليس هناك تلازم بين الفقر والمسكنة.

     فالزهد بينه الله -تبارك وتعالى- في قوله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحديد: 23) هذا هو الزهد كما قال الجنيد -رحمه الله تعالى-. قال -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} (الحديد: 22-23) أي: لا تأسوا على ما فاتكم من أمور الدنيا؛ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ف؛الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود.

عدم الفرح بالدنيا

     ثم أكد على ضرورة عدم الفرح بالدنيا بقول الإمام أحمد في الزهد: هو عدم فرحه بإقبالها وحزنه على إدبارها، ويقول الإمام أحمد وقد سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهداً؟ قال: نعم، على شريطة ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت، فليس الزاهد من لا مال عنده، وإنما الزاهد من لم يشغل المال قلبه وإن أوتي مثل ما أوتي قارون، فالتحذير إنما هو من تغلغل الدنيا في قلوب الناس، فتتحول نياتهم من عمل لرفعة الإسلام وعبادة الله إلى طلب جاه ومنصب ومال، فالمطلوب أن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه.

الدنيا مثل السفينة

     ثم أشار إلى مثال ضربه بعضهم لتوضيح هذه الحقيقة فقال: الدنيا مثل السفينة، فالسفينة ما دام الماء خارجها تستطيع أن تمشي في البحر الخضم سالمة ناجية، أما إذا دخلها الماء واستقر داخلها فإنها تغرق وتهلك، فكذلك الدنيا، فإن أهم شيء أن لا يستقر حبها في قلب المؤمن، فإذا دخلت في القلب أفسدت عليه دينه، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه»، يعني أنّ حرص المرء على المال والشرف يفسد دينه أكثر مما يفسد الذئبان الجائعان اللذان أرسلا في غنم لا راعي لها، فكيف الظن بذئبين جائعين مطلقي الحرية في الفتك بهذه الغنم؟! فالفساد الذي يتحصل من وراء هذين الذئبين ليس أشد من الفساد الحاصل من حرص المرء على المال والشرف على الدين، فمكر الشيطان هو محاربتنا بسلاحنا، فيأتينا من حيث لا نتوقع.

الحجج والمعاذير

     ثم بين الشيخ أن الكثير منا عندما يعاب عليه انشغاله بالدنيا فإنك تجد الحجج والمعاذير والتسويغات التي لا تنتهي معدة جاهزة عنده سلفاً مثل السهام والصورايخ، فإذا قلت له: هون عليك، أو ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب» يعني: هونوا عليكم في طلب الدنيا، ولا تستميتوا في طلبها. فتجد أنك إذا ذكرته بمثل هذا المعنى يسارع في الاستدلال بقول الله -تبارك وتعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15)، وقوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك