رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد السعيدي 16 مارس، 2020 0 تعليق

المقاصد الشـــرعيــة في الكـوارث الطبـيعـيــة (2)


استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه في العدد الماضي عن المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية، وذكرنا أن الأحداث الكثيرة التي تنتاب العالم من كوارث، يجريها الباري -عزوجل- على خلقه، وأن المقاصد الإلهية من هذه الابتلاءات، تختلف من قوم إلى قوم؛ فإن الأمة المؤمنة المتقية لله -تعالى- المتبعة لتعاليم رسله، المنقادة لدينه -سبحانه وتعالى- موعودة بالخير الدنيوي قبل الأخروي، ومن ذلك الوعد بالاستخلاف، والتمكين، والأمن بعد الخوف.

     وحين ينجز الله وعده، ويرث المؤمنون الأرض بعد تحقيقهم لشروط التمكين الإلهية، يظلون يحملون مسؤولية الحفاظ على مكتسباتهم، في تكوين مجتمع مستعبد لله اختيارا، كما هو مستعبد لله اضطرارا، وذلك ببذل الوسع في الصبر على أوامر الله، والصبر على أقداره والصبر عن معاصيه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (42).

إقامة الشرائع والأمر بها

     ويقتضي ذلك إقامة الشرائع والأمر بها والنهي عن مخالفة أمر الله، وصنعيهم هذا هو الوسيلة الصحيحة لاستجلاب نصر الله -تعالى-، حيث يقول -سبحانه- في سورة الحج: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}، وتبدأ معاناتهم من حين ينشأ من داخلهم فئة تحاول التمرد على الوضع القائم المتسم بالوقوف بصرامة ضد الشهوات والشبهات, وهي محاولات تبدأ ضعيفة في شكل خروجات،ولاسيما عن مألوف المجتمع، ثم تتطور إلى خروجات عن قيمه بمختلف مصادرها, ثم تنمو لتصل إلى محاولات لتسويغ هذه الخروجات وجعلها واقعا ودفع المجتمع إليها دفعا.

ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     ويؤكد القرآن الكريم إلى ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوصفه مبدأ عاما ينبغي أن يتضافر المجتمع على تحقيقه، لأن شيوع المنكر وعلو كلمة أهله مؤذن بعقابهم، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17)، وقال -تعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(79)( المائدة).

تقدير الأسس الإيمانية

     وتتوالى الأيام، ويبتعد المجتمع عن تقدير الأسس الإيمانية التي من أجلها وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من أمن وتمكين, ويضعف عند الصلحاء الصبر على الإنكار واستصلاح الخلق، فتتكرر السنة الكونية، وتبدأ النذر الربانية على هيئة عقاب جزئي، أو تخويف كلي، كما جاء في سورة النحل {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (46)}، فمكر السيئات مطلقا دون رجوع وإنابة، ومع استمراء وإشاعة للسيئات كله مغضب للرب -عزوجل- ومنذر بتحقيق وعيده، ولهذا ينهى الله -سبحانه- عباده المؤمنين عن الأمن من مكره -سبحانه- وعاجل عقوبته، ويشير إلى أن الأمن من مكر الله سمة الخاسرين، قال -سبحانه- في سورة الأعراف) {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَيَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)}.

التعامل مع النذر

     والأمم في مثل هذه المواقف، يقل فيها من يقدر هذه النذر حق قدرها، فيتعامل معها بالصبر عليها، واحتساب الأجر من الله على ما وقع له جراءها، والأمة التي تسلك هذا السبيل في التعامل مع هذه النذر والمخوفات والعقوبات، تستبقي نعيمها مدة أطول، وتأمن من الأخذ الكامل، أو البأس المستمر.

نظرة مادية

     لكن أكثر ما يقع من الأمم، هو النظر إلى هذه النذر نظرة مادية بحتة، ويغفلون عما فيها من عبر ينبغي أن يتدبرها أولوا الألباب، {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112).

كفر النعم

     ولنتأمل تعبير القرآن في كفر النعم، فهو تعبير عظيم عن شيوع المعصية وفيه دلالة على أن المعصية الموجبة للعقاب الدنيوي ليست كفر الإشراك، بل هي أعم من ذلك، إذ يظهر ان المراد بالكفر هنا ضد الشكر, ومن أظهر معالم هذا النوع من الكفر، صنع السيئات والتمالؤ عليها والاستكثار منها, يؤكد هذا تعليل هذه الابتلاءات بما كانوا يصنعون.

هل يعاقب البريء؟

     يقول أحدهم: إننا نفهم أن تكون الكوارث الطبيعية تخويفا أو ابتلاء, بل نفهم أن تكون عقابا للأمم الباغية, لكننا لا نفهم أن تكون عقوبات في مجتمعات يغلب عليها طابع الخير والتدين لمجرد وجود شيء من المخالفات الشرعية التي يوجد أضعافها في داخل مجتمعات إسلامية أخرى لم تعان مثل هذه الكوارث, بل كيف تكون عقوبات، وجل من يصاب بها هم البسطاء والخيرون، أما دعاة الانحلال والتفسخ، فلم نر هذه المصائب تمس أحدا منهم إلا قليلا؟

دلالة العموم والإطلاق

     والجواب عن هذا الإشكال لن يكون مقنعا دون التسليم بدلالة العموم والإطلاق في قوله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30)، فكل المصائب والنوائب التي تقع على المؤمنين مطلقا في هذه الحياة، هي نتيجة وجزاء لما كسبته أيديهم من آثام، قال -تعالى- {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2)، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24).

الاعتبار والتدبر والتفكر

     وعليه، فإن تلك الإشكالات ليست من قبيل الاعتراض على المسلَّمة الواردة في الآية القاطعة في دلالتها، ولكنها من قبيل الاعتبار والتدبر والتفكر في آيات الله -تعالى- الكونية والمتلوة, وهو نوع من أنواع العبادات التي امتلأ القرآن الحكيم بالأمر بها والحض عليها، فمن التدبر في هذا الأمر، أن يقال من بديع صنع الله -تعالى- فيما يقره على عباده، أن صفاته العلا لا يحول بعضها دون بعض، فلا يحول غضبه دون رحمته، ولا يمنع سخطه من لطفه، فإذا عاقب -سبحانه- مؤمنا على ذنب في هذه الدنيا، فقد تكون هذه العقوبة رحمة له, وذلك بأن يكون مصابه في الدنيا مانعا من عقابه في الآخرة, أو رفعة لدرجته في الجنة, أو يكون مصابه سببا في صلاح حاله فيما بقي من دنياه، أو سبيلا لإصلاح أمر ذريته في دينهم أو دنياهم، وبهذا فليس نزول العقاب بالعبد شرا محضا، بل قد يصح للعبد جراءه من الخير مالا يعلمه إلا الله.

التقصير في جنب الله -تعالى

     كما أن الذنوب والتقصير في جنب الله -تعالى- لا يعصم منه عبد مؤمن, والذنوب التي يعاقب الله -تعالى- عليها ليست مقتصرة على ما يظهر للعيان من سفور وتبرج وإشاعة للفاحشة وتعامل بالربا, بل إن من الآثام ما هو أعظم عند الله من ذلك، مع أنه ليس له منظر بارز في المشاهدة اليومية للشارع والسوق والحي، فقطيعة الرحم، وعقوق الآباء، وعضل الأيمات، وسلب النساء أموالهن, وامتناع الأولياء عن النفقات, وظلم الأيتام وأكل أموالهم, والتقصير في أداء الأعمال التي يأخذ عليها المرء أجرا وظلم العاملين والكبر والحسد والحقد, كلها ذنوب عظيمة لا يمكن أن يقال إنها موجودة في طبقة من طبقات المجتمع، أو شريحة من شرائحه دون الأخرى، وبملاحظة ذلك لا يمكن أن نصحح الاعتراض بكون المصائب تنزل غالبا على من لا جرم لهم، لأننا لا يمكن أن نجزم بأن أحدا لا جرم له.

حكمة الله -تعالى

     ومن حكمة الله -تعالى- وبديع لطفه، أنه لا يأخذ الأمم المؤمنة بذنوبها أخذا، بل الأخذ -كما تدل آيات الكتاب الحكيم- عقاب حصري على من يشاء من الأمم الفاجرة المعرضة بمجملها، فإذا لاحظنا ذلك لزم منه أن عقوبة بعض الأمة ببعض ذنوبها تخويف للآخرين، وإنذار لهم وأمر بتصحيح مسار حياتهم وتدارك أخطائهم.

حين تنزل كارثة

     نصل مما تقدم إلى أنه حين تنزل كارثة من الكوارث الطبيعية على مجتمع ظاهره الخير والإيمان، ونسمي ذلك عقوبة، ولا ينزل مثلها على مجتمع تكون الفاحشة فيه أظهر والدعوة إليها أكبر، فلا يعني أن من نزلت بهم الكارثة شر ممن لم تنزل بهم، لأن نزول الكارثة على وجه العقوبة، لا يخلو عن كثير من معاني الرحمة كما تقدم، فضلا عن أن عدم الكوارث الطبيعية أو قلتها، لا يعني عدم العقوبة، إذ ليست العقوبات الدنيوية محصورة في جنس واحد من المصائب، بل قد تصاب المجتمعات بأصناف أخرى من العقاب هي أشد إيلاما من الكوارث كالحروب والأمراض وشيوع الفقر واستشراء الظلم وتسلط الأقوياء على الضعفاء، واستيلاء الأعداء على خيرات الأرض، فهذه كلها مصائب لا أعتقد أن مجتمعا من مجتمعات المسلمين المبتلاة بشيوع الفاحشة سالمة منها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك