رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد السعيدي 10 مارس، 2020 0 تعليق

المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية


أحداث كثيرة تنتاب بلاد العالم من كوارث يبتلي بها الباري -عز وجل- خلقة بدءًا من أوبئة تنقلها كائنات صغيرة وضعيفة الخِلقة لا تُرى حتى يتم تكبيرها آلاف المرات وتفعل في العباد من الفتك مالا يفعله بأس بعضهم ببعض، إلى اضطرابات عظيمة في بنية هذه الأرض، ينتج عنها زلازل وبراكين وحرائق تهلك القرى والمدن، وفيضانات تغمر اليابسة وأعاصير شديدة السرعة تدمر ما تأتي عليه، وتحمل معها مياه المحيطات والبحار لتذر الناس وراءها ما بين موتى ومشردين وبائسين ومرضى، وكل قدُرات البشر الهائلة في تسخير البراري والجبال والبحار تقف عاجزة عن فعل أي شيء سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد انتهاء الكارثة.

     ومع كل حدث من هذه الأحداث تتعالى أصـــــوات الـواعـظين محـذريـن مـن مـغبة الـذنـوب ومـن عـظيم غـضب الـرب، مـؤكـديـن أن الـغفلة عـن تـــعالـــيم الـــديـــن ســـبب رئـــيس فـــي إنـــزال هـــذه المـــصائـــب تـــالـــين قـــول الله -عز وجل-{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} الشورى:30.

النَّفَس الوعظي

     لكن عددًا آخر من أهل القلم أزعجهم هذا النفس الوعظي الذي يحمل رائحة الاتهام للمجتمع ومؤسساته باستمراء المعاصي والاستهانة بتعاليم الرب، كما أنه خطاب يستخف بالعقول التي لا يغيب عنها ما تتبناه الأمم الأخرى من جحد للدين أو إنكار للرب وهي مع ذلك في أنعم العيش وأرغده.

من مسائل الفلسفة

     والعجيب أن هذه المسألة التي نتحدث عنها اليوم كانت منذ أرسطو وما زالت إلى عهدنا من أمهات مسائل الفلسفة، وتشتهر عندهم بمسألة الشر، وكذلك في بلاد الغرب تعد من مسائل الاختلاف بين الأصوليين من اليهود والنصارى وبين العلمانيين أو المتدينين الليبراليين، ولما كان لهذه المسألة أثر كبير في توجيه الفكر الإنساني كان لها في القرآن الكريم حظ وافر من الآيات الكريمات التي ناقشت هذه المسألة في خطوطها العريضة حينا وبتفاصيلها الدقيقة أحيانا أخرى.

الابتلاء محرك التاريخ

     الابتلاء درجة متقدمة من درجات الاختبار، وقد سمي بذلك لأنه يُبلي الإنسان من شدته، والبشر مخلوقون في هذه الحياة للبلاء؛ فكل ما يمر عليهم من أقدار الله الكونية التي تؤثر في حياتهم أفراداً أو جماعات إنما هو ابتلاء، بل إن ما خلقه الله في الإنسان من حواس وجوارح كان من أبلغ حكمها تمكينه من الأدوات اللازمة ليتأهل للمشاركة في هذا الاختبار المتقدم، وإقامة الحجة عليه ليكون جديرا بالحكم عليه في نهاية المطاف إما شاكر وإما كفورا، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} الإنسان.

     وليس الابتلاء قاصرًا على ما يناط بالإنسان من تكاليف دينية وأعباء اجتماعية بل يدخل في ذلك ما يلاقيه من خير ومتع في حياته وما يصيبه من معاناة ومصاعب ومصائب في خاصة نفسه ومجتمعه فهو مبتلى بالخير كابتلائه بالشر، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الأنبياء:35.

أنموذج مصغر

     والفرد فيما يصيبه من البلاء بالخير والشر أنموذج مصغر للمجتمع والأمة، فالمجتمعات الصغيرة والأمم العظيمة تتعرض أيضا كما يتعرض الأفراد لظروف الخير العام والشر العام، ولا يخرج ذلك عن كونه ابتلاء فالأمم المكونة من أفراد كثيرين تعامل في باب الابتلاء معاملة الفرد الواحد، وتأخذ نتيجة جماعية باجتياز هذا الاختبار إن خيرا أو شرا، ويتحمل الصالحون في هذه الأمم المغبة الدنيوية للفشل في الابتلاء الجماعي بقدر ما يتحمل الفاسدون الذين هم المتسببون المباشرون في هذا الفشل؛ لأن التعامل القدري الكوني مع الأمم باعتبارها جسدا واحدا لا يمكن التمييز بين أعضائه في ظروف الثواب والعقاب.

الصورة المنعكسة

     والصورة المنعكسة صحيحة؛ فالفاسدون في الأمة ينعمون بمنح الخير التي تعقب نجاح الأمة بصالحيها في اجتياز ظروف الابتلاء بالضراء، قال -تعالى-: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} العنكبوت، ولكن كيف يكون الابتلاء محركا للتاريخ وما المطلوب من العبد بهذا الابتلاء؟.

سنة الله -تعالى- في خلقه

     الابتلاء سنة الله -تعالى- في خلقه كما شهدت بذلك آيات القرآن الكريم، وهو مقدر على الإنسان مطلقا سواء أكان مسلما أم كافرا، كبيرا أم صغيرا كما هي دلالة الإطلاق في كلمة الإنسان من قوله -تعالى-: {إنا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} الإنسان:2، وكما تتعدد فئات المبتلين يشير القرآن الكريم إلى أن أنواع البلاء تتعدد، فابتلاء بالخير وابتلاء بالشر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الأنبياء:35.

ابتلاء بالكوارث

وابتلاء بالكوارث {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (99)} الأعراف.

ابتلاء بالأمراض

     وابتلاء بالأمراض {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214، وابتلاء بالخوف والجوع والفقر وكثرة الموت بينهم {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} البقرة:155.

ابتلاء بالبأس

     وابتلاء ببأس بعضهم {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الأنعام:65، فهذه أصناف الابتلاءات ليست خاصة بعنصر أو أمة بل يتعرض لها البشر كافة.

المقاصد الإلهية

     وكذلك تنص الآيات القرآنية على أن المقاصد الإلهية من هذه الابتلاءات تختلف من قوم إلى قوم؛ فإن الأمة المؤمنة المتقية لله -تعالى- المتبعة لتعاليم رسله المنقادة لدينه -سبحانه وتعالى- موعودة بالخير الدنيوي قبل الأخروي، ولكن هذا الوعد مرهون التحقق باستيفاء شروط لا تكون الأمة دون تحقيقها مؤهلة لنيل وعد الرب -عز وجل- بالثواب العاجل، وهذه الآية تبسط القول في الوعد كما تبسط بيان شروطه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور:55، فالوعد هو بالاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف، أما الشروط فهي الإيمان وعمل الصالحات وإخلاص العبادة لله، وهذه الشروط حين تتحقق فلا بد أن يتحقق ما وعد الله به.

التمكين الجزئي

     وربما كان لتحقق هذه الوعود إرهاصات بشيء من التمكين الجزئي الذي يغري الكثيرين باتباع منهج هذه الفئة التي ظهرت على الأرض بوادر تمكينها، ولو لم يكونوا على قناعة تامة أو تبن صحيح لمنهج هذه الطائفة الواعدة، فيبتلي الله -تعالى- هؤلاء الواعدين بأصناف من البلاء هي في ظاهرها شر للذي تحدثه من الخراب والهلاك، ولكنها تتضمن خيرا عظيما لا يظهر للعين المجردة ألا وهو تخليص المؤمنين من اللصقاء والأدعياء تمهيدا للتمكين النهائي الذي يخص به الله -تعالى- من لم تزعزع ثقته بالإيمان وأهله في تلك البلايا والامتحانات، يقول الله -تعالى- في ذلك: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} آل: عمران، وقال -تعالى-: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} العنكبوت، وقال -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} محمد: 31.

تساقط الأدعياء

     وحين ينتهي هذا الاختبار، ويتساقط الأدعياء، ويبقى الصابرون على المنهج الحق، تختلف الصورة وتأتي المكافأة لكنها أيضا مكافأة مشروطة بالبقاء على المسلك القويم الذي من أجله تمت نعمة الله -تعالى- بما لاقته هذه الأمة من التمكين والرزق، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء:105، لكن حين يرث الأرض عباد الله الصالحون كما هي الآية هل يتوقف التاريخ وهل ينتهي الابتلاء، أم أن للقصة بقية؟

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك