رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فضيلة الشيخ الدكتور محمد علي فَركُوس 8 أكتوبر، 2012 0 تعليق

المــال ووجـوه عنايــــة الإسلام به

 

إن النفوس البشرية مجبولة على حب المال وتكثيره، مفطورة على بغض ضياعه وتقليله، وقد جاء وصف التعلق بالمال في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: {وتحبون المال حبا جما} (الفجر:20)، {وإنه لحب الخير لشديد} (العاديات:8)، ولما كان الإسلام دين وسطية واعتدال لم يحل بين النفس الضعيفة وما تشتهيه لئلاً يفسدها، كما لم يضيق عليها لحاجتها إليه حاجة أكيدة، بل ضبط رغبتها وحاجتها بضوابط ترجع عليها وعلى محيطها بالخير والنفع.

     وللمال في الإسلام قيمة عظيمة فبه قوام معايش الناس وحاجاتهم من تجارات وغيرها، وعلى أساسه وجوداً وعدما، كثرة وقلة، شرع الله عبادات مختلفة كالزكاة والحج والجهاد، قال تعالى: {انفروا خفافاً وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} (التوبة:41).

     ومن عناية الإسلام بالمال أنه اشترط لدفعه لمستحقيه ومالكيه شرط الرشد وهو الصلاح في الدين والحفاظ على الأموال، وهذا ما جاء صريحاً في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} (النساء:6)، قال ابن كثير - رحمه الله -: «وهكذا قال الفقهاء: متى بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت وليه»(1)، وإذا كان هذا الحكم فيمن كان صاحب المال فإن منعه - أي: المال- ممن لا يملكه إذا كان غير صالح في دينه، عابثاً به من باب أولى؛ لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} (النساء: 5)، وهذا المنع إنما هو للحفاظ على المال من الضياع لقيمته، ومن تهاون وخالف فأعطى سفيها ماله فضاع، عوقب بمنع إجابة دعائه فيه، ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: «ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، ورجل آتى سفيها ماله وقد قال الله عز وجل {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}(2).

     ومن عظيم عناية الإسلام بالمال أن جعله إحدى الضروريات الخمس التي حفظها وصانها؛ ولذلك حرم الاعتداء بأي شكل من الأشكال سواء بالسرقة أم بالغصب أم بالنهب أم بالجحد، «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»(3)، ورتب على كل نوع منها حدا ببتر اليد، أو تعزيراً بالضرب أو الحبس أو الجلد أو غيرها.

     ومن مظاهر العناية بالمال أن رغب الإسلام في الكسب الحلال، وأباح العديد من المعاملات النافعة، وحرم ما يضر بالفرد أو مجتمعه، قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 275)، وحثه على الاكتساب بعمل اليد لأنه أقوى في التوكل وأصون للنفس من المهانة، قال عليه الصلاة والسلام: «ما أكل أحد طعاماً قط، خيراً من أن يأكل من عمل يده» (4)، وفضّل الساعي في كسب مال يدفع به حاجته وحاجة عياله على السائل أعطي أو منع، ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه: خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»(5)، قال الصنعاني: «الحديث دل على.. قبح السؤال مع الحاجة، وزاد بالحث على الاكتساب ولو أدخل على نفسه المشقة؛ وذلك لما يدخل السائل على نفسه من ذل السؤال وذلة الرد إن لم يعطه المسؤول، ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى من يسأل»(6).

     ولذلك شرع الله للناس التكسب من التجارة والصناعة والزراعة وكل مهنة لا تتضمن منهيا عنه إما في أصلها كالسرقة والكهانة، أو في وصفها كبيع الخنزير والأصنام، ومهر البغي وغيرها.

      وضبط الإسلام مخارج الأموال ومصارفها ضبطا لا يؤدي بالنفس إلى الانحراف أو التقتير والبخل المذموم شرعا، قال تعالى: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} (النساء:37)، وقال عليه الصلاة والسلام: «وأي داء أدوى من البخل؟!»(7)، فأوجب على الأغنياء الذين تتحقق فيهم شروطها وتنتفي فيهم موانعها أن يصرفوا جزءا من أموالهم إلى من يستحقونه من الفقراء والمساكين وغيرهما ممن ذكرهم الله في وقوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} (التوبة:60)، وجعل الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة التي يبنى عليها، وميزتها تطهيرها للمال من ذنوب ما كان لهم الخلاص منها إلا بأدائها لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة:103)، وإلى جانب تطهير الزكاة للمال فإنها تنمية لقوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}(البقرة:276)، ولقوله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه.. ما نقص مال عبد من صدقة..» الحديث(8).

     والزكاة من المجال الاقتصادي تعد مصدرا ماليا يعزز قوة الأمة وتحتاج إليه الدولة لتنظيم أحوال الأمة وتسيير حياتها، ومن جهة أخرى فإن الزكاة تعتبر في المجال الاجتماعي أهم وسيلة علاجية للمشكلات التي تواجه الأمة وفي طليعتها الفقر، ورعاية حال المساكين والسائلين، والمعوزين والمحرومين والمحتاجين.

     كما ألزم الرجل بالنفقة على من تحت عصمته ومسؤوليته من زوجة وأولاد لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}(الطلاق:7)، ولقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}(البقرة:223).

     وحث على إنفاق المال في وجوه الخير والإحسان كالصدقة فقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم}(آل عمران:92)، ووعد بخلفها فقال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}(سبأ:39)، وكالهدية للتحبب والتآلف لقوله صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا»(9).

     ومن مآثر الإسلام ومفاخره عنايته بالمال بعد موت صاحبه، فلم يتركه في أيدي الورثة يستأثر به بعضهم دون بعض، أو يطالب به من لا يستحقه، بل تكفل الله بقسمته بنفسه، فأعطى كل ذي حق حقه، ووفى لكل مستحق نصيبه، وذلك من حكمته إنه عليم حكيم، قال تعالى في ختام آيات المواريث: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}(النساء: 13)، قال ابن كثير رحمه الله: «أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها»(10).

     والجدير بالتنبيه ترغيب الإسلام في امتلاك المال الوفير ولمن كان مستخدما له في طاعة الله، منفقا له في وجوه الخير والبر، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «بعث إلي رسول الله [ فقال: خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني، فأتيته وهو يتوضأ، فصعّد في النظر ثم طأطأه، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، قال: فقلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا عمرو: نعمّا بالمال الصالح للرجل الصالح»(11)، ولما كان الافتتان بالمال عظيما وفتنته مهلكة كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، ولا أراهما إلا مهلكيكم»(12)، فإن الشرع الحنيف ندب الأغنياء إلى التفقه في أحكامه لئلا يقعوا في شراك هوى النفوس وما تمليه شهواتها، وجعل الجامع بين العلم والمال في أعلى المراتب كما جعل محصل المال دون العلم في أخسها وأحطها، ففي حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه مرفوعا: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء»(13)، فإن لم يوفق الإنسان إلى علم بالشرع، إما طلبا أو سؤالا، يزن به معاملاته المالية مكسبا ومنفقا فالأرفق به تخفيفا عنه التقليل منه، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب»(14)؛ ذلك لأن الانشغال بجمع المال والحرص عليه قد يؤدي إلى ترك حق الله في العبادة، والانشغال عن الواجبات، والزهد في مجال العلم،  وتضييع الأهل والأولاد، فمن رزق علما وفقها علم أن المال وسيلة لا غاية فطلبه من محاسنه وأنفقه في مرضاة الله واستعمله في طاعته، فصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»(15)، ومن رزق صلاحا وتقوى لا مالا أدرك بنيته الصالحة ما فاته بعمله المالي، وحاز يوم القيامة السبق إلى دخول الجنان قال صلى الله عليه وسلم: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، قال: وتلا {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}(الحج:47)» (16).

     هذا، وغايات توجيه المال في الإسلام كثيرة لا تحصى، وليس المراد من هذه الكلمة حصر جملة الغايات السامية للمال، أو بيان الأحكام الكلية لكل عنصر منها بالتفصيل والتدقيق، وإنما المقصود منها هو بيان محطات اكتساب الأموال ونقاط مخارجها ومصارفها التي ضبطها الإسلام ضبطا محكما، فتناولنا خطوطها العريضة بصورة مختصرة.

     وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.

 

الهوامش:

1- تفسير ابن كثير (2/189).

2- أخرجه الحاكم (2/331)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (4/420).

3- أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679)، من حديث أبي بكرة ].

4- أخرجه البخاري (2072)، من حديث المقدام ].

5- أخرجه البخاري (1471)، من حديث الزبير بن العوام ].

6- «سبل السلام» للصنعاني (1/548).

7- أخرجه البخاري (296)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (7104).

8- أخرجه الترمذي (2325)، من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (3024).

9- أخرجه البخاري (594)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في «الإرواء» (1601).

10- «تفسير ابن كثير» (2/203).

11- أخرجه أحمد (29/298)، وصححه الألباني في «غاية المرام» (454).

12- أخرجه الطبراني (2/294)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه ، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (4/278).

13- سبق تخريجه.

14- أخرجه أحمد (39/36)، من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/452).

15- أخرجه مسلم (595)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

16- أخرجه أحمد (16/426)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (7076).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك