رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: رضوان نافع 18 نوفمبر، 2017 0 تعليق

المعتزلة الجدد ونفق العلمانية المظلم

إن الهجوم على السنة النبوية قديم؛ فقد كان من أوائل من طعن في السنة النبوية النظّام وإليه تنتسب الفرقة النظامية المعتزلية، وقد رد عليه ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث، وأشار الشافعي -رحمه الله- في كتابه الأم إلى قوم يردون السنة جملة وذكر مناظرته لبعضهم.

      والمعتزلة من الفرق التي تحكم العقل في السنة قبولاً وردًا، فهم يجعلون العقل أول الأدلة، ويرجعون إليه التحسين والتقبيح، بل وصل بهم الحال إلى ذم تعلم الحديث ونفروا منه، وقالوا بأنه لا حاجة إلى تعلمه؛ إذ العقول تغني والأذهان تكتفي، وقالوا بجواز وقوع الكذب في الخبر المتواتر والحجة العقلية عندهم كفيلة بنسخ الأخبار .

      وكان موقفهم من أخبار الآحاد بأنها لا تصدق ولا تكذب، ولا يؤخذ بها في العقيدة مطلقا، وجوزوا الأخذ بها في الأعمال في حيز ضيق وبشروط وقيود، وإذا رأوا مخالفة الحديث لعقولهم أسقطوه .

بعث روح الاعتزال

      واليوم قد بعثت روح الاعتزال عند كثير من مدعي الفكر والبحث العلمي، وجعلوا السنة غرضا لسهامهم، وهذا يندرج تحت حرب فكرية مسعورة على الإسلام؛ فبعد غزو المسلمين عسكريا وسياسيا واقتصاديا بقيت هوية أكثر المسلمين صامدة وديانتهم قائمة؛ فعلم أعداء الأمة أن سلخ هذه الهوية وهدم هذه الديانة لا يتأتى إلا بغزو فكري يخرج أجيالا متهلهلة، تختلط عليها الأمور؛ فتصاغ لها هوية مطاطة تقبل قوالب الثقافة الغربية، وتذوب فيها وتستسلم للهيمنة التامة .

الغزو الفكري للأمة

     الغزو الفكري للأمة كان ببث الشبهات حول أصول الإسلام من قرآن وسنة، وإسقاط رموز الإسلام بألوان التدليس والحيل الفكرية، وهذا الإفساد الفكري بذل في سبيله المستشرقون قديمًا جهودًا مضنية؛ فقد كانت لهم أعمال كبيرة مرتبطة بتراث المسلمين، لكن ملؤوها بشبههم، ودسوا السم في العسل فيما يكتبون، وما يدرسونه لأبناء المسلمين في الجامعات والمدارس، لكن اليوم يحمل راية الإفساد الفكري أبناء جلدتنا ممن يسمون مثقفين ومفكرين، وأنا أسميهم (المعتزلة الجدد)، وهم أشد من المستشرقين في جراءتهم وهجومهم على ثوابت المسلمين ورموزهم .

الاتِّجاه الليبرالي العربي

      وللحديث عن هذه الفئة التي بليت بها الأمة عموماً، والمغرب خصوصاً لابد من الحديث عن الاتِّجاه الليبرالي العربي الذي تربى على كتب المستشرقين، ورضع أفكارهم في الجامعات والمعاهد، فكان حلقة الوصل بين هؤلاء وأولئك، وهذا التيار جعل تُراث المعتزلة أحد مرتكزاته الفكرية لإثبات أصالة أفكاره وصِلَتِها بالإسلام، ولاسيما في تثبيت مفاهيم الحرية الفردية، وتعظيم العقل، والتوسُّع في تأويل النَّص لموافقة الواقع، والنتاج الفكري لهؤلاء هو مرتكز كل علماني للتنظير لكل ما يصادم عقيدة المسلمين وأخلاقهم.

      لا شك أن العلمانيين اليوم لم يشتقوا مذهبهم ولا آراءهم من الإسلام، ولا كانت بداياتهم منه، بل كان منطلقهم الثقافة الغربية المحضة؛ فأخذوا من الغرب مبادئه، وارتووا من أفكاره، ثم رجعوا يطلبون لهم من أهل الإسلام موافقا؛ فوجدوا التيار الليبرالي وأفراخ المستشرقين لهم نتاج أصوله معتزلية يتوسل من خلاله لبث سمومهم؛ فتبنوا أصول الاعتزال؛ لكنهم خالفوا المعتزلة في المنشأ والغاية؛ فقد كان ضلال المعتزلة بسبب مذهبهم العقدي الذي وضعوا له أصولا منحرفة، وكانت غايتهم تنزيه الله -تعالى- ونصرة الحق؛ فالمعتزلة القدامى كانت منطلقاتهم إسلامية وغايتهم سامية في ظنهم؛ أما المعتزلة الجدد (بنوعلمان)؛ فبعثوا روح الاعتزال بانتقائية في محاولة منهم لصبغ باطلهم بسمت إسلامي؛ لذلك وقعوا في تناقضات كثيرة؛ فضحت جهلهم، وكشفت عوراتهم، وغايتهم ضرب الإسلام وهدمه، لبناء صنم العلمانية الغربية؛ فشتان بينهم وبين المعتزلة الذين انتسبوا إليهم فكرا ليرفعوا بهم خسيستهم، وينفوا حقيقة نسبهم الغربي .

شبه حول ثوابت المسلمين

      لا يخفى على المغاربة ما أثاره هؤلاء العلمانيون في بلادنا في السنوات الأخيرة من شبه حول ثوابت المسلمين ورموزهم، انطلاقا مما كتبه وأصّله المستشرقون وأفراخهم الليبراليون، واتخذت مسألة نقد التراث الإسلامي حيزًا كبيرًا من اهتماماتهم؛ لأنه كان لا بد من إيجاد مسوغات لأطروحاتهم التي تخالف هوية الشعب المسلم وإيديولوجياته ومفاهيمه الأصيلة حول الدين في الجانب العقدي، وفي الجانب العملي والأخلاقي.

أشقياء كُثُر

      وقد انبعث لهذا العمل أشقياء كُثُر، كتبوا كتبا وعشرات بل مئات المقالات والتغريدات، وسجلوا حلقات تلفزيونية، وإذاعية كثيرة، وفسحت لهم المنابر الإعلامية الرسمية وغير الرسمية المجال ليبثوا سمومهم بكل أريحية، ولم يجد الدعاة ومن يريد رد باطلهم الترحيب نفسه؛ فالمنظومة متكاملة لإفساد المجتمع، والعلمانيون تحكموا في وسائل الإعلام وسخروها لخدمة رسالتهم .

      وبالموازاة كان أشقياء غيرهم يتولون كبر الإفساد الأخلاقي عن طريق الشهوات وبثها في المجتمع عبر المهرجانات، ووسائل الإعلام بكل ألوانها؛ لذلك فهناك علاقة حميمية بين من يتولى كبر الإفساد الفكري وبين من يتولى كبر الإفساد الأخلاقي والسلوكي.

      ووجد أشقياء الإفساد الأخلاقي كل الدعم والتأييد من إخوانهم المفكرين الذين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، ومازال كلا الطرفين يتضامن حسا ومعنى مع الآخر، إذا وجهت أي ضربة لأحد الأطراف من العلماء والدعاة أو من الجهات الرسمية والوصية على الشؤون الدينية أو القضائية بالمغرب.

الدور اليهودي

      ولا أنسى الإشارة إلى الدور اليهودي في دعم هؤلاء ماديا ومعنويا؛ فقد تمت استضافة عدد منهم بدولة الكيان الصهيوني مرارًا، وأكرموهم وبجلوهم، ولعلهم وضعوا خططا مشتركة للعمل؛ وهذا ليس غريبًا على اليهود؛ فهم أكثر الأجناس ركوبًا على شواذ الآفاق لاختراق أقطار المعمورة.

      يقول الأستاذ عبد السلام بسيوني في بحثه حول العقلانية: «وإنني بالبحث لم يخامرني دهشة ولا عجب حين قرأت أن بذور الدعوة العقلانية بذور يهودية، يسوغ سارتر الوجودي اليهودي نشرها في العالمين، بأن البشر ما داموا يؤمنون بالدين فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف، على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض وتعامل الناس بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي، ولن يقع عليهم التمييز والحيف».

ويقول سارتر اليهودي -أيضًا-: «إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى هي: عبادة الـذهب، وتعريـة الجسـم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني».

سمات المعتزلة الجدد

وزيادة في التعريف بمنهج تيار المعتزلة الجدد فليعلم القارئ أن لفكرهم سمات عامة تتلخص فيما يأتي :

- الغلو في تحكيم العقل، وتقديمه على النصوص الشرعية وهذا واضح جدا في طرحهم، ويجعلونه منقبة لهم.

- تفسير الإسلام في عقيدته وأصوله تفسيرًا عقلانيًا ماديًا أو فكريًا، دون اعتبار لمفاهيم النصوص عند السلف وعلماء الأمة ومخالفين لهم في منهج التلقي والاستدلال، وحاولوا إخضاع القرآن والسنة للمقاييس المادية حتى تتلاءم مع منهج الحضارة الغربية وقيمها التي يرونها مقياسا لكل نهضة وتقدم.

- رد الأحاديث التي تخالف منهجهم ولا يمكن تأويلها، متواترتها أو آحادها، في الصحيحين أوفي غيرهما، ويزعمون أنهم إنما يقصدون تنقية السنة من الموضوعات، وتنزيه الرسول عن النقص والقول الغلط، وقد كذبوا والله إنما قصدهم إسقاط السنة وهدم الشريعة كما أسلفت .

- الطعن في الصحابة والتابعين، ولاسيما المكثرون من رواية الحديث .

- إنكار المعجزات، وكثير من الغيبيات؛ كالملائكة والجن والسحر، وهذا أمر حتمي لمن قدم العقل على النقل.

- الدعوة إلى التقارب ووحدة الأديان.

- الدعوة إلى القومية وهذا اشتهر به بعضهم أكثر من بعض .

- اضطراب وخلط مقصود في مفهوم الولاء والبراء .

- الدعوة إلى تجديد الدين، وحقيقة هذه الدعوة تبديل الدين وتغيير أحكام الشريعة الربانية، وفتح الباب لكل عقل بأن يقول في دين الله ما شاء.

      هذه أبرز السمات العامة لأرباب هذا التيار (المعتزلة الجدد)، وهذه السمات تتجلى أيضًا -ومع الأسف الشديد- في فكر كثير ممن يحسب على التيارات الحركية في المغرب، ولاسيما التي لها شق سياسي كالعدالة والتنمية؛ فكثير منهم يحمل في جبته الإسلامية كيسًا علمانيًا (معتزليا).

      وقد كان المؤتمر الدولي الأخير حول السنة النبوية وتعزيز فكر الوسطية والاعتدال الذي انعقد بالبيضاء فرصة ظهر فيها فكر المعتزلة الجدد، وصدع به على رؤوس كبراء من التيار الإسلامي؛ فكان لبعضهم تعقيبات مشرفة، وبقي بعضهم على أصله في استساغة هذا الفكر أو تبنيه.

نموذج من هذا التيار

      ولعل أكثر ما أثارني في هذا المؤتمر مشاركة مصطفى بوهندي صاحب كتاب (أكثر أبو هريرة) الذي طعن فيه بالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه وشكك في صحبته، وهي محاولة فاشلة من هذا الفاشل لإسقاط مرويات هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه ، وحرمان الأمة من جزء كبير من السنة نقله هذا الحبر، فهو أكثر الصحابة نقلا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .

      بوهندي نموذج من هذا التيار الذي بعث الاعتزال بكل تجلياته القبيحة، واغتنم هذا المؤتمر فرصة للتنظير لفكره المنحرف، بل طبق أصول هذا التيار عمليا على مسائل خطيرة كافأه بعض أصحاب الجبة الحركية بتصفيقات وابتسامات عريضة؛ فمن يعول على الحركيين السياسيين في الانتصار للسنة وثوابت الأمة، والمساهمة في مدافعة التيار العلماني ببلدنا؛ فهو يعول على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ؟!

الخطر الكبير

      إنه من الخطر الكبير على هوية المسلمين وجود تكتلات لها قوة سياسية وأكاديمية داخل البلدان الإسلامية، تجمع هؤلاء الليبراليين والعلمانيين الذين يسمون أنفسهم مثقفين ومفكرين، وقد تواطؤوا على التشكيك في عقائد المسلمين، ونشر الشبه حول ثوابت الإسلام وأصوله، وبث ذلك وسط جيل ليس له حصانة فكرية، وقد أصيب في مقتل من خلال مناهج التعليم التي بدورها صيغت منذ خروج المحتل لتهيئ هذه العقول لتلقي مثل هذه الشبه وقبولها.

      فهذه التكتلات وصلت إلى مراكز القرار، وسخرت مؤسسات الدولة ومنابرها الرسمية لخدمة مشروعهم العلماني المصادم لهوية المسلمين وثوابتهم، وأصبح الإسلام يحارب في عقر داره، وأحيانا باسم الإسلام ولا حول ولا قوة الا بالله .

توعية المجتمع

      فعلى الدعاة والعلماء الصادقين التشمير عن ساعد الجد، والحرص على توعية المجتمع بخطر هؤلاء، وبيان حقيقة مشروعهم الخبيث، وعداوتهم المبطنة لأهل الاسلام، وبيان أوصافهم، بل وتسمية من عرف منهم، وبيان أصولهم التي ينطلقون منها، وتفنيد شبههم وتحصين المجتمع منها، كما أنه لا سبيل لمدافعتهم على الوجه الأكمل إلا بإحداث مشاريع دعوية كبرى تقوم عليها تكتلات وهيئات تضاهي مشاريع هؤلاء الحداثيين والعلمانيين .

      كما أنه قد باتت مدافعة هذا السيل الجرار من الشبه والهجوم على أصول الإسلام من قرآن وسنة تقتضي إنشاء مراكز ومراصد ومنابر إعلامية ضخمة، يشرف عليها العلماء، ويفرغ فئام من طلبة العلم والدعاة الأكفاء لرصد هذه الشبه والرد عليها رداً محكماً ورصيناً، وتنشر تلك الردود على أوسع نطاق حتى يصل الرد؛ حيث وصلت الشبهة .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك