المطالبة بالحفاظ على هوية البلاد الإسلامية فيه رسالة غضب ضد مؤامرات الليبراليين- مظاهرات الإسلاميين في بنغازي تقرب ليبيا من الخيارات الصعبة
تظاهرة هي الأضخم منذ سقوط نظام القذافي ونهاية أربعين عامًا من القمع والاستبداد شهدتها مدينة بنغازي مفجرة ثورة السابع عشر من فبراير سيرها عشرات الآلاف من الإسلاميين مطالبين بأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس والرئيس للتشريع، وأن يتضمن الدستور الليبي نصًا بهذا المعنى لا يعرض على الاستفتاء ولا يكون محل مراجعة من أي من الهيئات السياسية العاملة في ليبيا.
مطالب القوى الإسلامية التي رفعت المصاحف خلال هذه التظاهرة لم تتوقف على قضية الشريعة الإسلامية بل طالبت كذلك بحزمة من المطالب منها أهمية إصدار قانون النزاهة والكفاءة بوصفه شرطاً لشغل أي منصب في الإدارات الليبية المختلفة، وفي المقدمة منها بالطبع السياسية. وتطهير جميع مؤسسات الدولة من فلول نظام القذافي في إشارة ضمنية إلى مسؤولين بارزين في المجلس الانتقالي ومنهم محمود جبريل وعبدالحفيظ غوقة اللذان يعدان من أبرز رموز العلمانية المعارضة للمشروع الإسلامي في ليبيا.
جهود قبائلية
ومن المؤكد أن هذه الاحتجاجات الضخمة كانت ترغب في تحقيق أكثر من هدف منها إيصال رسالة إلى المجلس الوطني الانتقالي بإدخال تعديلات جذرية على قانون الانتخابات، ومنها إلغاء النظام الفردي الذي أقره المجلس كشكل للنظام الانتخابي باعتبار أن النظام الفردي يكرس الجبهوية والقبائلية ويعلي من شأن رأس المال في العملية الانتخابية ويحرم الكفاءات والمرأة من الوصول للبرلمان الليبي وهو أمر لا يليق ببلد راغب في تدشين تجربة ديمقراطية وليدة.
بل إن الرسالة الأهم التي أراد المتظاهرون الإسلاميون توصيلها عبر مظاهرات بنغازي وسبها ومناطق في طرابلس هي الاعتراض على مساعي تهميش الإسلاميين وإبعادهم عن دوائر صنع القرار في ليبيا في وقت أدوا فيه الدور الأهم في إشعال الثورة للخلاص من نظام العقيد البائد، خصوصًا أن حكومة عبد الرحيم الكيب الحالية تعد من أكبر المظاهر على التهميش الذي طال الإسلاميين في مرحلة ما بعد القذافي.
فالإسلاميون لا يؤدون أي دور مؤثر داخل هذه الحكومة التي استبعدت القائد العسكري للثوار عبدالحكيم بلحاج من منصب وزير الدفاع لصالح أسامة الجويلي، وكذلك تم استبعاد إسلاميين بارزين نافذين داخل المجلس الانتقالي لصالح عناصر علمانية بشكل كرس الطابع العلماني لهذه الحكومة الراغبة في إقصاء الإسلاميين عن أداء دور مهم في مرحلة ما بعد العقيد.
معارضة شرسة
ومن البديهي التأكيد أن مساعي تهميش الإسلاميين لن تمر مرور الكرام؛ حيث يتوقع أن يكون الرد عليها حادًا لاسيما بعد حادثة الاعتداء على عبدالحفيظ غوقة المتحدث الرسمي باسم المجلس الانتقالي في جامعة بنغازي، وهو الاعتداء الذي أجبره على تقديم استقالته من منصبه وهي الاستقالة التي تكشف عن مدى حدة الصراع بين الإسلاميين والليبراليين وهي المعركة المتوقع اشتعالها خلال الفترة القادمة في ظل اقتراب استحقاقات شديدة الخطورة منها تشكيل لجنة لوضع المبادئ الأساسية للدستور تمهيدًا للدعوة لانتخابات لاختيار هيئة تأسيسية لصياغة هذا الدستور في يونيو المقبل، وهي الانتخابات التي يتوقع لها أن يشكل الإسلاميون فرس الرهان بها في ظل الدور المهم الذي أداه الإسلاميون في مسيرة الخلاص الدامي من حكم العقيد، فضلاً عن أن الحكومة مازالت تضع العراقيل أمام احتواء أكثر من 25 ألفًا من المقاتلين ضمن قوات الأمن ولاسيما أنها قامت بحل اللجنة الأمنية وتفويض صلاحياتها لوزارة المالية.
تضييق وتهميش
ولذا فالإسلاميون يبدون على موعد قريب من جني ثمار جهودهم لإسقاط القذافي مستفيدين من هذا النجاح من قدراتهم التنظيمية الكبيرة وقربهم من الأغلبية العظمى من الشعب الليبي رغم التضييق والتهميش والحصار الذي عانوا منه طوال الأربعين عامًا، فالإسلاميون سواء أكانوا إخوانًا مسلمين أم سلفيين سيؤدون الدور الأهم في رسم مستقبل البلاد، بل إن كل التوقعات كما يؤكد د. ناصر شماطة أستاذ الاجتماع السياسي بجامعة طرابلس ومدير إدارة الأزمات بالمجلس الانتقالي تشير إلى أن الإسلاميين سيشكلون الأغلبية داخل الجمعية التأسيسية في تكرار واضح لتجربة كل من مصر وتونس والمغرب.
وأشار إلى أن هناك قبولاً داخل الشعب الليبي بأن يحوز الإسلاميون النصيب الأكبر، فهم حاربوا الملكية والديكتاتورية؛ لذا لا يجدون مانعًا من منح الإسلاميين الفرصة لبناء ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي.
ووصف شماطة الصراع المتوقع بين الليبراليين والإسلاميين بالسلمي، مستبعدًا وجود مواجهات عنيفة بين الطرفين، خصوصاً أن هناك قبولاً من جميع أطراف العملية السياسية في ليبيا بنتائج الانتخابات الحرة والنزيهة.
ورفض شماطة مزاعم بعضهم بتأكيد أن مظاهرات بنغازي جاءت ردًا على تهميش الإسلاميين بالقول بأن الحكومة الحالية مؤقتة وليست منتخبة وهي حكومة تسيير أعمال في الأغلب الأعم، من ثم فلا مجال للحديث عن تهميش للإسلاميين أو غيرهم لتحقيق أهداف بعينها.
حديث د. شماطة عن الاكتساح المتوقع للإسلاميين وأدائهم الدور الأهم في صياغة الدستور يكشف عن تنامي نفوذ الإسلاميين في الساحة الليبية ولاسيما أنهم قد استطاعوا ملأ الفراغ الذي تركته سلطة العقيد؛ حيث استطاعت مؤسساتهم توفير الخدمات والدعم لعديد من الأسر الليبية المتضررة من الفوضى في مرحلة ما بعد سقوط طرابلس في أيدي الثوار، وهو الأمر الذي أداء التيار السلفي واسع النفوذ في المناطق الشرقية الدور الأهم فيه بشكل عزز نفوذه وكرس التفاف المواطنين حوله، ولاسيما الأطراف المنضوية داخل جبهة إنقاذ ليبيا.
ويزيد من فرص الإسلاميين في التحول لأداء دور رئيس في ليبيا المستقبل الخطاب الهادئ الذي تعامل به التيار الإسلامي مع مخاوف بعض القوى؛ حيث وجهت رموز للتيار في مقدمتهم د. علي الصلابي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين خطابًا أكدوا فيه حرصهم على حقوق جميع المواطنين الليبيين والقبول بما تسفر عنه الانتخابات والحفاظ على حقوق المرأة، وهي خطابات وجدت آذانًا صاغية لدى قطاعات واسعة من الشعب الليبي لكونها أبرزت الوجه المعتدل للإسلاميين.
صدام متوقع
غير أن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن هناك احتمالات لوقوع تصادم بين التيارين الليبرالي والإسلامي في ظل تباعد المواقف بينهم؛ حيث لن يسلم التيار الليبرالي بالهزيمة المتوقع أن تلحق به خلال الانتخابات القادمة، بل إن هذه القوى قد تحاول استعداء أطراف أجنبية على القوى الإسلامية في ليبيا، وهي المحاولات التي عكستها تصريحات مساعد وزير الخارجية الأمريكية (فيلتمان) بأن واشنطن تراقب أفعال الإسلاميين وليس أقوالهم بل إن هذه التيارات قد حاولت تشويه صورة الإسلاميين بزعم وقوف قوى عربية وفي مقدمتها قطر وراءهم؛ حيث تمدهم بالسلاح والمال لفرض سطوتهم على الساحة الليبية وهو قول لم يجد دليلاً لدى الرأي العام الليبي المرتاح بشدة للدور العربي في إسقاط العقيد.
ويرى د. طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن الأوضاع في ليبيا مفتوحة لمواجهة جميع الخيارات، فقبول الأطراف المختلفة بنتائج الانتخابات قد ينزع فتيل الأزمة المتوقع اشتعالها.
وأوضح أن الإشارات التي أرسلها الإسلاميون بقبولهم التعددية السياسية وسعيهم لإبعاد ليبيا عن أي فوضى والتأكيد على تفضيلهم السيناريو التركي في الحكم قد يرد كثيرًا من المخاوف التي أراد الليبراليون إشعالها.
ورأى أن التظاهرات الضخمة التي شهدتها بنغازي التي سيرها الإسلاميون قدمت دليلاً على رفضهم لأي محاولات لتهميشهم والتأكيد على وجود أجندة واضحة سواء سياسية أو اقتصادية لبناء ليبيا جديدة بعد أربعين عامًا من حكم العقيد.
لاتوجد تعليقات