رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: القاهرة: د. أحمد عبدالحميد 10 أغسطس، 2017 0 تعليق

المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية- قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد


لا شك أن تحصيل المصالح ودفع المفاسد أصل من أصول الشريعة؛ إذ إن الشريعة إنما جاءت لتحصيل مصالح العباد الدينية والدنيوية، ودفع المفاسد عنها، وقد ثبت هذا المعني يقينًا من مقاصد الشارع الحكيم في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وتضافرت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والنظر في المآلات وعدَّها كذلك أصلاً من أصول الفقه؛ لذلك فإنه لابد لنا من معرفة هذا الأصل لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ متى نصرّح؟ ومتى نلمَّح؟ وحتى لا نكون عبئًا على الأمة الإسلامية أو ثغرة تؤتى من قبلها؛ لذلك كانت هذه السلسلة من المقالات، واليوم نتكلم على بعض القواعد المرتبطة بالمصالح والمفاسد وكيفية الموازنة بينهما.

قاعدة اعتبار القدرة والعجز.

     خلاصة القاعدة أن المطالبة بالتكاليف الشرعية منوطة بالقدرة على أدائها وأن العاجز عنها غير مطالب بها، قال -عز وجل-: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال -عز وجل-: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، والمعجوز عنه لا يطالب به المكلف والعجز إما أن يكون عجزا حسياً كالعاجز عن النطق بالنهي عن المنكر؛ لأنه أبكم وإما أن يكون عجزا معنوياً كأن يكون قادرا حسياً لكن يغلب على ظنه حدوث مفسدة أعظم فيمتنع عن النهي، ومن هنا كانت علاقة هذه القاعدة بالموازنة بين المصالح والمفاسد.

     يقول شيخ الإسلام: من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزاً عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها» فلابد من أمرين؛ ليتحقق التكليف الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية.

الأول التمكن من العلم، والثانى القدرة على العمل، وبناء على هذا فإن المعجز عنه ساقط الوجوب والمضطر إليه غير محظور.

     قال شيخ الإسلام: «فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد» لا تكليف إلا بمقدور {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} «لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها»، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم» وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب».

قاعدة تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما

     أى إِذَا دارَ الأَمْرُ بينَ فعلِ إحدى المصلحتيْنِ وتفويتِ الأُخْرَى؛ بحيثُ لا يمكنُ الجمعُ بينهُمَا، رُوعِيَ أَكبرُ المصلحتين وأَعلاهُمَا فَفُعِلَتْ. فهنا توجد القدرة لكن أمامه مصلحتان ولا يقدر إلا على تحصيل واحدة منهما، ولا يستطيع الجمع بينهما فمع أن الأصل تحصيل جميع المصالح وتكميلها إلا أنه عند التعارض فإنه يفوت أدنى المصلحتين ليتمكن من تحصيل أعلاهما، قال العز بن عبد السلام في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد: «إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل، لقوله -تعالى-: {فَبِشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، والأصل في هذا الباب قوله -تعالى-: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن وَدُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ حيث أرشـدت الآية إلى أن المصلحة العظيمة في ترك سب المشركين تفوق ما يحصله المسلمون من سب آلهة المشركين. قال ابن القيم: فحرم الله -تعالى- سبَّ آلهة المشركين مع كون السب غيظاً وحمية لله وإهانة لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله -تعالى-، وكانت مصلحة ترك مسبته -تعالى- أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم. وهذا كالتنبيه بل التصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز، وقال شيخ الإسلام: «فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما؛ فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحالة واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركَ واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرَّمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما؛ لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة. وهذا باب التعارض باب واسع جداً».

قاعدة ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما

- يعني: أن المفاسدَ إذا تعارَضَت بحيث لابدَّ من وقوعِ المكلَّفِ في بعضِها، فيرتكبُ المكلَّفُ أدنى المفاسدِ وأقلَّها، ويدفعُ أعلاها وأقْواها؛ فإذا تزاحمت المفاسد بحيث لا يتمكن المرء من ترك المفسدتين معاً، وإنما يتمكن من ترك إحداهما بشرط ارتكاب الأخرى، فحينئذٍ يرتكب المفسدة الأقل من أجل درء المفسدة الأعلى. ومن أدلة هذه القاعدة: قوله -جل وعلا-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فهنا تعارضت مفسدتان؛ المفسدة الأولى: تلف النفس، والمفسدة الثانية: الأكل من الميتة.

     فيتجنب المكلف المفسدة الأشد، ولو كان في ذلك ارتكاب المفسدة الأقل بأكل الميتة فالمسلم يوازن فى الأمور المختلطة التي لا تصفو لجانب واحد، ويرجح خير الخيرين، ويختار أهون الشرين؛ لأن الحياة ليست دائما اختياراً يين خير خالص وشر خالص بل إن الإنسان كثيراً ما يجد نفسه مخيرا بين خير وخير وشر وشر أو بين شيء فيه بعض الخير وبعض الشر بل الإنسان قد يجد نفسه فى ظرف غير عادى تكون عاقبة فعل ما هو -فى العاده خير شراً فماذا يفعل؟ نقول عليه أن يختار أقل الأمرين شراً؛ لأنه إذا كان غرضه الخير فإن أقل الأمرين شراً هو الأقرب إلى الخير والدليل على ذلك قوله -تعالى-: {من كفربالله من بعد إيمانه إلامن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}  فإن الله أباح للمؤمن التفوه بكلمة الكفر إذا هدد بالقتل أو بغيره من الأمور التي يصعب عليه تحملها فهنا يكون قد اختار أهون الشرين، وحديث الرجل الذى بال فى المسجد يدل على ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم - رأى أن فى تركه حتى يكمل بوله ضرراً أخف من قطع بوله عليه؛ لأن فى قطع البول ضرراً أشد كتنجيس بدنه وثيابه والمسجد واحتباس بوله، وقول يوسف -عليه السلام-: {رب السجن أحب إلي مما يدعوننى إليه} فاختار السجن بدلأ من الوقوع فى الفاحشة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى فى هذا الحال محرماً فى الحقيقه وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل حرام باعتبار الإطلاق لم يضر ويقال فى مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أشد تحريما»، وقال أيضا: «وقد يتعقد أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريقه المشروعة علماً وعملاً فإذا لم يحصل النور الصافى بأن لم يوجد إلا النور الذى ليس بصاف وإلا بقى الإنسان فى ظلمة فيه.

     وهذا الكلام لا يعنى إقرار الشر أو الرضا به بل ينكر ما أمكن ذلك ويوضح الأمر للناس لكن لا ينبغى التفريط فيما هو متاح لطلب أمر لا قبل لنا به وهذا مثل قضية الدستور فإن إقرار دستور موافق للشرع من كل جانب فى بلد كمصر فى هذه الآونة غير ممكن والإصرار عليه يؤدى إلى فتنة أكبر، ويفوت مصالح كثيرة ممكنة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والنجاشى ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن فان قومه لا يقرونه على ذلك وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماماً وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفساً الا وسعها» وينبغى أن يعلم أنه لا تلازم بين المشاركة فى النظم التي تقوم على آليات الديمقراطية وبين الرضا بها بكل ما تعنيه من فلسفة وآليات.

قاعدة اعتبار المآلات

     جاء فى القاموس القويم في الاصطلاحات الأصولية مآلات الأفعال معناها أن يأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه سواء أكان الفاعل يقصد ذلك الذي آًل إليه الفعل أم لا يقصده يقول الإمام الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة».(الموافقات5/177-178) أى أنَّ المجتهد لا يقوم بالحكم على التصرف قولاً كان ذلك التصرف أم فعلاً إلاَّ بعد أن ينظر في مآله ونتائجه، ويقدر ما سيتمخض عنه تطبيق ذلك التصرف من المصالح والمفاسد والخير والشر وبعد ذلك يصدر الحكم على التصرف بالمشروعية أو عدم المشروعية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك