المشروع الإصلاحي لصلاح الدين الأيوبي في مصر .. دروس وعبر (2)
استكمالا لما بدأناه في الحديث عن المشروع الإصلاحي لصلاح الدين الأيوبي في مصر، ذكرنا أننا سنقف على جانب من أهم جوانب هذا المشروع ألا وهو الجانب التربوي والفكري، وقبل أن نخوض في تفاصيل هذا الجانب لابد أن نستوضح أهم المرتكزات التي ارتكز عليها والمنطلقات التي انطلق منها، وكذلك الفوائد والمضامين التربويَّة له حتى يستشعر القارئ أهميته وأثره في التغيير على أرض الواقع، والتي من أهمها:
- أولاً: الانطلاق من الـمسجد بوصفه قاعدة أساسية للتغيير: فقد كان المسجد هو المحور المهم والأساس في جميع أشكال الحياة؛ إذ كانت المساجد أماكن للعبادة والقضاء والتدريس ومأوى لابن السبيل والغرباء، ومن هذا المرتكز انطلق صلاح الدين – رحمه الله – متخذًا المسجد مؤسسة تربويَّة تؤدي دورها الهام في عمليَّة التغيير.
- ثانيًا: الاهتمام بالنشء وإيجاد البيئات التربوية الـمناسبة لتنشئتهم: فقد اهتم صلاح الدين بالصغار ولأهميتهم في المجتمع الإسلامي عمل على فتح الكتاتيب والمدارس الشرعية لهم؛ حيث أيقن صلاح الدين أنَّ هذه المؤسسات التربويَّة هي الأساس في عملية التغيير.
- ثالثًا: التدرج في التغيير: حيث اعتمد صلاح الدين طريق الترفق والتدرج في التغيير الفكري الذي ارتآه؛ لأنَّ الجفاء في الإنكار على المخالفين من المسلمين المتلبسين ببعض البدع دون لُطفٍ أو تَرَفُّق، أو اعتبار للمآل والثمرات، يُعمِّق الجرح ويوسع الشرخ، دون أن يصلح الخلل أو يحقق المصلحة المرجوة.
- رابعًا: الاتزان في منهجيَّة التغيير: حيث واجه صلاح الدين – رحمه الله - الفكر المخالف بفكر منافس، وواجه المؤامرات العسكريَّة بسيف صارم؛ إدراكًا منه أنَّ الفكر يواجَه بقوة الفكر، والجُرم يواجَه بقوة القانون، وليس من العدل أن يتم إزهاق نفس بسبب تبنيها فهمًا مغايرًا للإسلام.
- خامساً: العمل الجاد وعدم الاستغراق في الخلاف: فقد كان صلاح الدين رجل عمل لا جدل، مدركًا أنَّ الاستغراق في أمور الخلاف والوقوف عندها طويلاً استنزاف للذات، فعمل على استنقاذ الأمَّة من حالة الطوارئ التي تعيشها، بالعمل الإيجابي في ساحة الحرب وفي ساحة الفكر، ولم يستنزف جهده في أمور الخلاف والجدل النظري.
دور المعاهد الشرعية في المشروع الإصلاحي التربوي
عندما ملك صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله - مصر، فقه الدور المهم الذي يؤديه التعليم في إحداث التغيير المطلوب، فاعتنى هو والأمراء بإنشاء عديد من المؤسسات التربويَّة والتعليمية، وكان على رأسها المعاهد الشرعية والمدارس الدينية، وقد حث التجار والقضاة والعلماء وحتى النساء على الإسهام في إنشاء هذه المؤسسات، وكانت أغلب هذه المدارس تنسب إلى مؤسسيها وواقفيها.
وقد أثرت هذه المؤسسات تأثيراً واضحاً في واقع الحياة السياسية والاجتماعيَّة والفكريَّة من خلال التوعية المتوقدة التي قامت بها، وكانت نتيجة ذلك أنها أحدثت انقلابًا فكريًا شاملاً من خلال تربية جيل متميز صالح يرغب في طاعة الله عز وجل ويراعي أمره ونهيه.
-وقد هدف صلاح الدين من إنشاء المؤسسات التعليمية التي شيّدها إلى مجموعة من الأهداف أهمها:
-القضاء على المناهج الفاسدة التي انتشرت في هذا الوقت.
-إيجاد الإنسان المؤمن بربه من خلال تعليم الناس وتثقيفهم بأمور دينهم.
-نشر اللغة العربية والاعتناء بها.
-تبصير الناس بما يحيق بهم وبالأمة من مخاطر من خلال تربية الأمة على الجهاد وحثهم عليه.
-إعادة بناء المجتمع وفق منهج أهل السنة والجماعة.
-نشر الأخلاق الحميدة والقضاء على ما أفسدته المناهج السابقة من أخلاق الناس.
ولا شك أن الطريق لم تكن مفروشة بالورود أمام صلاح الدين لإحداث هذا التغيير؛ فقد كان أمامه عدد من العقبات والتحديات التي لابد أن يتغلب عليها للبدء في مشروعه الإصلاحي، وقد أدرك أن عليه واجبًا كبيرًا وأن مسائل عديدة تقف أمامه بحاجة إلى حل جذري، ومنها:
-انتشار الفساد في المؤسسات التربوية الموجودة التي كانت تمثل مصدر التلقي الوحيد للناس آنذاك.
-فساد المناهج التربوية التي كانت تمثل تشريعًا خاصًا لنشر العقائد التي تخالف عقائد المسلمين من أهل السنة والجماعة.
-وجود زعماء ورؤساء على رأس هذه المؤسسات التربوية يحاولون تولي زمام الأمور وعرقلة جهود صلاح الدين الإصلاحية.
وبرغم هذه التحديات إلا أن صلاح الدين – رحمه الله – استطاع بتوفيق من الله التغلب عليها وتحقيق الأهداف التي كان يصبو إليها وإحداث التغيير الشامل الذي يريده، من خلال استغلال التعليم وفق المفاهيم والاتجاهات التي حددها التصور الإسلامي والسعي نحو ترجمة هذه المفاهيم إلى أهداف تعليمية قابلة للتطبيق.
لاتوجد تعليقات