رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 25 يونيو، 2012 0 تعليق

المشروع الإصلاحي لصلاح الدين الأيوبي في مصر – دروس وعبر (3)

 

المشاريع الإصلاحية التربوية الضخمة لا شك تحتاج لضمان بقاء واستمرارية حتى تتمكن من أداء رسالتها على الوجه الأكمل وإحداث التغيير المنشود، وأهم عقبة تقف أمام هذه المؤسسات هي التمويل ولا شك؛ لذلك اهتم صلاح الدين بإيجاد مصادر تمويل دائمة لها، ولا سيما أن الشعب المصري كان فقيرًا وقد أرهق بكثرة الضرائب الباهظة، وجزء آخر من الشعب كان من المغاربة والسودان وغيرهم من الغرباء وطلبة العلم الفقراء، وقد تنبه صلاح الدين لذلك فعمل على توفير قدر من الاستقرار المادي للمعلمين والطلاب وتقديم التسهيلات المناسبة لهم ليستطيعوا التفرغ للتعليم والتعلم، وقد اعتمد على مصادر عدة للتمويل أهمها:

      التمويل من قبل الدولة «بيت مال المسلمين»: قال ابن جبير: «إن كل مسجد تم بناؤه أو مدرسة، عيَّن لها السلطان صلاح الدين أوقافًا تقوم بها وساكنيها والملتزمين بها»، وقال في موطن آخر: «وألحق بالمسجد النظام الداخلي؛ حيث كان مأوى للغرباء وأجرى عليهم الأرزاق في كل شيء»، وبهذا أمَّن صلاح الدين بصفته سلطانًا وولي أمر المسلمين تمويل هذه المؤسسات، فكان يعطي أربعين دينارًا في كل شهر على التدريس وعشرة دنانير للنظر في أوقاف المدرسة، وستين رطلاً مصريًا من الخبز يوميًا، ويجعل راويتين – السقا - للمدرسة كل يوم.

      ثانيًا: التمويل من قبل الأمراء والوزراء والقضاة: اقتدى الأمراء والوزراء والقضاة بفعل السلطان صلاح الدين، فشرعوا في إقامة المؤسسات التربوية وتمويلها، ومن هؤلاء (القاضي الفاضل) الذي أشرف وأنفق على المدرسة الفاضلية المنسوبة إليه وأوقف لها الوقف اللازم، وغيره الكثير.

      ثالثًا: التمويل من قبل عامَّة الناس: حيث مول التجار وغيرهم من عامة الشعب المؤسسات التربوية بمصر مثل ابن الأرسوفي، الذي بنى إحدى هذه المدارس وأطلق عليها (مدرسة ابن الأرسوفي)، وبنى مسرور الصفدي – وهو من عامة الناس – (المدرسة المسرورية)، وحسام الدين قايماز الذي بنى (المدرسة الغزنوية) وتعهدها، وغيرهم الكثير.

      مما سبق يتضح أن صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – أولى المؤسسات التربويَّة والتعليمية عناية خاصة، وغطى جوانب المجتمع المصري بكافة طبقاته لأنه قصد إحداث تغيير شامل في واقع المجتمع، فصهر جميع الاتجاهات نحو الاتجاه التربوي واستطاع أن ينهض بالأمة من خلال هذا الاتجاه.

      ومن خلال هذه الخطوات ارتقى صلاح الدين بجهوده نحو بناء نظرية للتغيير والإصلاح الاجتماعي تتمثل بتبني الحاكم المسلم التربية وسيلة للتغيير، فمجموعة الإجراءات التي قام بها لبناء الأمة قطف ثمارها باسترجاع بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وتغيير واقع المجتمع المصري الذي وقع تحت الاحتلال الفاطمي قرابة الثلاثمائة عام.

      وهذه التجربة الفذة والمشروع الرائد يدفعنا أن نربط بين واقع العصر الذي عاش فيه صلاح الدين – رحمه الله -بواقعنا المعاصر؛ لأن الأمة تعيش اليوم الصعاب والتحديات التي عاشها وواجهها صلاح الدين على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، كما نرى الآن في مصر.

      ولمَّا كان الأمر كذلك، واليوم شبيهًا بالبارحة، وفي ظل هذا الكم الهائل من الفساد الذي خلفه النظام السابق والذي تجذَّر في المجتمع حتى النخاع، كان لابد للحركات والتيارات الإسلامية وبشكل مُلِحٍّ أن تضع في قمة أولوياتها العناية بالمؤسسات التربوية والتعليمية والفكرية، وتجعلها نقطة الانطلاق لتغيير شامل، بغية إخراج «علماء» راسخين في ميادين الفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعسكرية وسائر ميادين الحياة؛ وأن تبحث كذلك عن الموهوبين من الأجيال الناشئة، وتعمل على تنمية مواهبهم ورعايتها حتى تبرز «القيادات الحكيمة» التي تعيد للأمة مجدها.

ومن هنا فإن أهم العبر والفوائد التي نخرج بها من هذه التجربة الثرية ما يلي:

ضرورة التزام التربية في إطارها الإسلامي أداة لتغيير الواقع المظلم.

ضرورة إلزام علماء الأمة في كافة التخصصات بوضع الترتيبات اللازمة لإحداث التطوير الشامل للمناهج التعليمية والتربوية.

-ضرورة العمل على إحياء فريضة طلب العلم الشرعي ودعم المؤسسات التعليمية التي تقوم بذلك.

-اعتماد مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وفرض القوانين اللازمة لذلك.

-تربية الأمة تربية جهادية بالضوابط الشرعية التي يقرها علماؤنا الثقات؛ وذلك لحفظ الدين والعرض والهوية.

-إحياء دور المسجد والعودة به لما كان عليه في صدر الإسلام وأزمان العزة.

-الاهتمام بالبحث العلمي وتشجيعه ونشره ودعمه.

-نشر المكتبات العلمية وإحياء دورها في بناء المجتمعات.

-تكريم العلماء وإجراء الأوقاف اللازمة لهم لتضمن لهم العيش الكريم والتفرغ للتعليم.

وختامًا: فإن الأمَّة التي تحترم نفسها وهويتها وكينونتها، لا تقبل أبدًا أن تخضع ثوابتها الإستراتيجية وأهمها التعليم ومستقبل الأجيال لهيمنة وعقلية الغرب الكافر المحتل؛ لأن النتيجة ستكون مأساوية وكارثية بكل المقاييس وستؤدي حتما إلى تفسخ وانهيار هذه الأمة والله المستعان.

المراجع:

كتاب: (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – للدكتور/ ماجد عرسان الكيلاني).

كتاب: (أثر جهود صلاح الدين الأيوبي التربوية في تغيير واقع المجتمع المصري - محمد حمدان القيسي).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك