المذهبية بين الإفراط والتفريط
التمذهب هو أن يلتزم المكلف بأحد المذاهب الأربعة المشهورة في التعلم والعمل دون الخروج عن المذهب الذي اختاره لنفسه، وهذا ما استقر عليه التفقه من قرون طويلة بعد استقرار المذاهب الفقهية المشهورة
المذهب الفقهي ليس كله من قول الإمام بل المذهب يضم أقواله وأقوال تلامذته المخرّجة على أصوله وقواعده
أصحاب المذاهب هم أئمة في الدين، جمعوا العلم من مظانه، وأفتوا بما رأوه صواباً حسب مقتضى الدليل من وجهة نظرهم
السلفية تعد المذاهب الأربعة بأئمتها وكتبها رافدا للتفقه ولا تعدّ نفسها مذهبا فقهياً خامساً كما يدعي كثير من خصومها
المذهبية من القضايا التي نالت نصيباً من الجدل بين أبناء الصحوة، وكعادة القضايا الشائكة فإنه يحصل فيها إفراط وتفريط، وعادة ما يكون الحق وسطا بينهما، وفي النقاط الآتية نوضح الإشكالية عند المتنازعين في القضية، ونقترب من بيان التوسط الذي يرفع الإشكال.
المراد بالمذهبية
هو أن يلتزم المكلف بأحد المذاهب الأربعة المشهورة في التعلم والعمل، دون الخروج عن المذهب الذي اختاره لنفسه، وهذا الالتزام هو ما استقر عليه التفقه منذ قرون طويلة من بعد استقرار المذاهب الفقهية المشهورة؛ بحيث يوجبون التقيد بالمذهب دون الخروج عنه بحال من الأحوال.
وما يزال الجدل يتجدد في العصور المختلفة بين دعاة التمذهب ودعاة الاجتهاد ونبذ التعصب، وكان من الطبيعي أن يعاد هذا الجدل في ظل الدعوات المتعددة للعودة للكتاب والسنة وترك التمذهب والجمود على أقوال الفقهاء، فحصلت حوارات ساخنة وألفت كتب وردود، وانتصر كل فريق لما يراه حقًّا، وتباينت المواقف تجاه هذه القضية.
الموقف الأول
- كان الموقف الأول: هو الموقف الرافض للمذهبية تماماً، ولمجرد التعلم على مذهب، أو العمل بمذهبٍ ولو على سبيل التقليد، وهذا الموقف ربما كان رد فعل للموقف المقابل؛ إذ يستدل هذا الفريق على موقفه ذلك بالكثير من الانحرافات التي وجدت عند متأخري مقلدة المذاهب بسبب جمودهم الفقهي وتأويلهم المفرِط للنصوص.
الفريق المقابل
وهو الفريق الذي رأى أن الانفلات من قيد المذهب هو انفلات من الدين، ويرى أنه ليس لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة مباشرة؛ إذ إن هذا شأن المجتهدين، وباب الاجتهاد قد أغلق منذ زمن بعيد. (انظر: اللامذهبية قنطرة اللادينية: ص: 5)، وبين هذا الفريق وذاك يكمن الموقف الصحيح من قضية التمذهب.
وهذا الموقف يتلخص في النقاط الآتية:
- العلم الحقيقي هو العلم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين.
- أصحاب المذاهب هم أئمة في الدين، جمعوا العلم من مظانه، وأفتوا بما رأوه صواباً حسب مقتضى الدليل من وجهة نظرهم.
- قدر الله لهؤلاء الأئمة مكانةً وشأناً فكثرت تلامذتهم وحملوا عنهم العلم، وعنوا باختيارات أئمتهم في المسائل المختلفة.
- من جاء بعدهم أراد أن يضبط أقوال الإمام ويجمعها ويرتبها ويبين الصحيح منها، ويبين ما رجع الإمام عنه مما لم يرجع، ويبين أصول الإمام التي بنى عليها فتاواه، ثم يخرِّج على هذه الأصول ما لم يجد للإمام نصاً فيه، وتبع هذا الاستدلال لمذهب الإمام والجواب عن معارضيه وبيان صحة فتواه، وهذا كله عرف بالمذهب اصطلاحاً.(انظر: المدخل المفصل 1/52-76).
إذاً فالمذهب الفقهي ليس كله من قول الإمام، بل المذهب يضم أقواله وأقوال تلامذته المخرّجة على أصوله وقواعده.
وعليه فالمذهب الفقهي بعد ضبطه وتنقيحه وتصحيحه غايته أنه ما رآه الإمام أنه الحق بعد نظره في الأدلة، وما يقتضيه رأي الإمام – من خلال أصوله – فيما لم ينص عليه صراحة، وضبط طريق الوصول إلى ذلك. (انظر: المدخل المفصل 1/31-36)، وفي سبيل هذا بُذِل جهد كبير، فألفت المؤلفات والكتب والحواشي والمختصرات، فيها من العلم النافع الكثير .
لكن هذا كله لا يوجب على العالم ألا يخرج عن هذه المذاهب الأربعة المعروفة، بل الواجب عليه أن يأخذ من حيث أخذوا، فإن ما يلزمه هو اتباع الدليل الشرعي، وما دام قد حصَّل آلة الاجتهاد فليس له العدول عنه.
وليس معنى هذا أنه لا يجوز له التقيد بمذهب، بل له أن يتعلم على مذهب من المذاهب، لكنه متى استكمل آلة الاجتهاد فليس له أن يظل على القول الذي يراه مخالفاً للدليل من وجهة نظره، بل يخرج عن المذهب لمقتضى الدليل.
وهذا ليس قدحاً في المذهب، ولا حطاً من شأنه، فإن المذاهب وسيلة للمقصد، فمتى حصل المقصد من طريق آخر فلا بأس بذلك، ولا ينبغي للوسائل أن تتغول على المقاصد.
وكذلك الفتوى فإن الواجب عليه أن يخبر عن حكم الله وفق ما يعتقد، لا أن يجيب وفق المذهب، وإن خالف ما يراه صواباً. (انظر: إعلام الموقعين 4/428).
أما طالب العلم فله أن يتعلم على مذهب من المذاهب الأربعة المعروفة، وعليه أن يحرص على أن يتعلم الدليل، وأن يستكمل آلة الاجتهاد، وهذا لا يحصل ضربة لازب، والمسائل الفقهية ليست على درجة واحدة؛ لذا فبعد أن يحصِّل أدوات الاجتهاد العامة: سيجد مسائل هو فيها كالعالم: فيلزمه ما يلزم العالم، ومسائل هو فيها كالعامي: فيلزمه ما يلزم العامي.
أما العامي: فهذا ينبغي عليه سؤال أهل العلم عما يلزمه من العمل، وكيفما أجابوه وجب عليه، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( النحل : 43).
العامي وسؤال غيره
- وهل يلزم العامي أن يسأل أحداً بعينه لا يسأل غيره؟
- الجواب: لا يلزمه ذلك، بل يسأل من حضر من أهل العلم، ومتى أجابوه كان هذا هو الواجب في حقه.
العامي والتمذهب
- وهل يلزم العامي أن يلتزم مذهباً بعينه فيطلب الفتوى بناء على هذا المذهب؟
- والجواب: لا يلزمه ذلك، بل لا يجوز أن يكون السؤال -لأجل العمل- عن المذهب، بل لابد أن يكون السؤال عن حكم الله -تعالى-؛ لأنه هو المقصود، والمذهب ما هو إلا وسيلة إليه، فلا يصح أن يكون سؤاله عن الوسيلة، بل سؤاله يكون عن المقصد.(انظر: إعلام الموقعين 4/492)
إذاً: فلا بأس أن يتعلم طالب العلم المذهب الفقهي، بل إن هذا مفيدٌ له من جهة أنه يتعلم وفق منهجٍ ضُبطت أصوله وفروعه، ووجدت كتبه وأئمته، ونُقِّحت فتاواه وهذبت، لكن ينبغي عليه أن يحذر من آفتين:
الأولى: التعصب للمذهب.
وهذا الأمر قد وجد كثيراً عند أصحاب المذاهب، وكم حصل من الشرور والفتن بسبب هذا، حتى وصل الحال لمنع الزواج بين المذاهب المختلفة، وأن يكون المسجد الواحد بأربعة محاريب؛ بحيث يؤذّن لكل مذهب ويصلي أصحاب كل مذهب بمفردهم.
الثانية: تداخل المذاهب العقدية
فقد ارتبطت بعض المذاهب في أوقات كثيرة بمذاهب عقدية انحرفت عن مذهب أهل السنة والجماعة؛ فكثير من الشافعية والمالكية والحنفية كانوا أشاعرة؛ السبب في ذلك أن أئمة الأشاعرة كانوا على هذه المذاهب الفقهية، فحصل خلط بين المذهب الفقهي والعقدي في أحيان كثيرة.
فعلى طالب العلم أن يفرق بين تَعلُّمه مذهباً فقهياً، وبين كون بعض أئمة المذهب قد اختاروا أقوالاً مخالفة لأهل السنة والجماعة موافقة للأشاعرة أو لغيرهم.
دعوى غلق باب الاجتهاد
أما دعوى غلق باب الاجتهاد فهي دعوى باطلة؛ إذ يقال لمن ادعى هذه الدعوى: أغلقت باب الاجتهاد بنص أم باجتهاد؟ فلا سبيل له إلى النص، وإغلاقها بالاجتهاد تناقض ظاهر!
ومن أصحاب المذاهب من يبالغ في شروط الاجتهاد فيصل بها إلى درجة المستحيلات؛ فيؤول الحال إلى أنه لا اجتهاد، وهذا لا يصح؛ إذ متى ثبت أن الاجتهاد هو العلم بالمأمور بتحصيله، فلابد أن يكون موجوداً في كل زمن وحين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (رواه مسلم)، والظهور على الحق لا يكون بالتقليد؛ إذ التقليد ليس بعلم.(انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض (ص 3 ) وما بعدها، والكتاب كله في الرد على من يغلق باب الاجتهاد).
وليس معنى هذا أن يكون الاجتهاد مفتوحاً لكل أحد، بل هو بشروط نص عليها الأئمة، وهي نوعان شروط عامة، وشروط خاصة.
الشروط العامة
- فالشروط العامة: أن يعرف آيات الأحكام وأحاديثها، وأن يتعلم من لغة العرب قدراً صالحاًك لكي يفهم كتاب الله وسنة نبيه على الوجه الصحيح، وأن يتعلم من علم أصول الفقه ما يمكنه من الاستدلال الصحيح، ويتعلم من علم المصطلح ما يميز به بين صحيح الدليل وضعيفه، وهذ كله بعد أن يكون فقيه النفس له قدرة على النظر.
الشروط الخاصة
أما الشروط الخاصة فإنه يشترط أن يكون عالماً بمواقع الإجماع والخلاف في المسألة التي يتعرض لها، وأن يعرف الناسخ والمنسوخ من الأدلة، وأسباب النزول فيما يتعرض له، وأن يكون عالماً بكلام الصحابة وفتاويهم فيما يتعرض له.(انظر: شرح الكوكب المنير 4/459-468) وغيره.
السلفية والمذاهب الأربعة
- حاصل القول: إن السلفية تعد المذاهب الأربعة بأئمتها وكتبها رافدا للتفقه، ولا تعدّ نفسها مذهبا فقهياً خامساً كما يدعي كثير من خصومها، وكذلك لا تقبل كل ما في المذاهب من أقوال مخالفة للدليل، غاية ما هنالك أنها تنزل المذاهب منزلتها اللائقة بها، فالتعلم من خلالها جادّة مسلوكة ومنهجية منضبطة، لكن مع الحذر من الآفات التي تعلقت بها من التعصب المذموم، مع الالتزام باتباع الكتاب والسنة، وذلك يكون بالاجتهاد في حق المجتهد وسؤال أهل العلم في حق العامي، وطالب العلم يلحق بهذا في مسائل وبالآخر في مسائل (انظر: فقه الخلاف 81-82).
لاتوجد تعليقات