رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عادل نصر 28 يناير، 2021 0 تعليق

المخالفات المنهجية التي وقعت فيها التيارات الصدامية

 

في خضم ما يمر به العالم الإسلامي من أحداث متعاقبة، عادة ما ترتفع بعض الأصوات بضرورة الإصلاح والتغيير، ليتحقق الأمل في تخليص المسلمين من الهوان الذي نزل بهم منذ قرون، ولا يزال في ازدياد وتصاعد، ومع تعالي هذه الأصوات فإن كثيرًا من هذه الجماعات جهلت أو تجاهلت منهج الأنبياء في الدعوة والإصلاح، فوقعت فيما وقعت فيه من أخطاء، جرَّت عليهم وعلى الأمة الويلات والنكبات، نتيجة مخالفتهم منهج الأنبياء، ولا شك أن أولى الخطوات على طريق الإصلاح تكون في انطلاق الدعوة الإسلامية من منطلقات صحيحة، واستنادها على أسس سليمة ودعائم ثابتة، لذلك نستعرض في هذه المقالة تلك الأخطاء التي وقعت فيها هذه التيارات.

أولاً: عدم الرجوع إلى علماء الأمة الثقات

     إن من أفدح الأخطاء التي وقعت فيها بعض التيارات الساعية للإصلاح والتغيير، عدم رجوعهم إلى العلماء الثقات الذين هم أجدر الناس على الفصل في النوازل والأمور المدلهمة، ولقد أمر الله -تعالى- بسؤال أهل الذكر فقال -سبحانه-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، يقول العلامة السعدي -رحمه الله-: وهذه الآية وإن كان سببها خاصًا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين (أصوله وفروعه)، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها أن يسأل من يعلمها، ففيه الأمر بالتعلم وسؤال أهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.

ترؤس الجهلة

     وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ترؤس الجهلة يفضي بالخلق إلى الضلال، وينتهي بهم إلى الزيغ والانحراف؛ إذ عصمة الأمَّة بالعلم الشرعي، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

الحط من العلم والعلماء

     والأمر لم يقف عند هذا الحد فقط، بل تعدى ذلك، إلى الحط من العلم والعلماء، حتى أصبح سمة من سمات القوم، ولم يكتف القوم بالنيل من العلماء، بل راحوا يقللون من شأن العلم وطلبه، يقول الإمام ابن القيم في فضل العلم والعلماء: «وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه، قال -تعالى- في سورة الفرقان: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا؛ فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73)، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن».

عليكم بطلب العلم

     والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق إلى الله، ولهذا قال معاذ - رضي الله عنه -: «عليكم بطلب العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبیح، والبحث عنه جهاد»؛ ولهذا قرن -سبحانه- بين الكتاب المنزل والحديد الناصر، كما قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:20) فذكر الكتاب والحديد؛ إذ بهما قوام الدين.

الأمراء والعلماء

     ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله، فسَّر الصحابة -رضي الله عنهم- قول الله -تعالى-: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) بالأمراء والعلماء؛ فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم، فطلب العلم وتعليمه من أعظم سبل الله لك، قال كعب الأحبار: «طالب العلم كالغادي الرايح في سبيل الله -عز وجل»، وجاء عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-: «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد»، وقال سفيان بن عيينة: «من طلب العلم فقد بايع الله -عز وجل»، وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: «من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في عقله ورأيه».

ثانيًا: عدم الاعتناء بتربية النفوس

     ومن الأخطاء الجلية التي وقع فيها أصحاب الحل الصدامي، أنَّهم خالفوا الأنبياء جميعًا؛ حيث بدؤوا بالقتال، في حين بدأ الأنبياء جميعًا بالدعوة والتربية، ولم يقاتل نبي قط حال استضعافه، بل راحوا يزكون النفوس بالتوحيد والطاعات، ويدعون إلى تعبيد الخلق لله رب العالمين، ويصبرون على أذى أقوامهم في سبيل ذلك، فلن يقدر على الجهاد إلا الذين تربوا على شرع الله، وجاهدوا أنفسهم على طاعة الله؛ حيث إن جهاد أعداء الله في الخارج فرع عن جهاد العبد نفسه في ذات الله.

ثالثًا: عدم تفريقهم بين الحكم والفتوى

ولقد نتج عن ذلك وقوعهم في مخالفات جسيمة وانحرافات عظيمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ونزيد الأمر بيانا فنقول: إن الحكم هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، فالحكم قسمان:

     تكليفي ووضعي، وتفصيل ذلك في كتب الأصول، أما الفتوی فهي إنزال هذا الحكم على الواقع المساوي له، وذلك بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وعليه: فيمكننا القول بأن الحكم ثابت لا يتغير، أما الفتوی فهي متغيرة تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر، فقد يكون الحكم واجبا، وتكون الفتوى بعدم الوجوب، وذلك لوجود مانع من امتثال هذا الواجب أو لفقدان شرط من شروط التكليف، ولذا كان من القواعد المقررة أن (الواجبات تسقط بالأعذار ولا تكليف إلا بمقدور)، بل أكثر من ذلك قد تكون الفتوى ضد الحكم تماما، كتغيير المنكر الذي سيجلب مفسدة أعظم، فالحكم وجوب تغيير المنكرات، أما الفتوى هنا هي المنع والتحريم؛ لأن الذي سيترتب على التغيير منكر أعظم، وهذا باب واسع لأهل العلم الراسخين، وفيه صولات وجولات.

     ولقد غاب هذا الأمر عن أذهان أصحاب هذا الحل تماما؛ نتيجة قلة العلم والفقه، وحداثة السن، وغير ذلك؛ مما كان له أسوأ الأثر وأوخم العواقب، ولو انتبهوا لهذه المسألة (مسألة التفريق بين الحكم والفتوى) لتجنبوا مزالق خطيرة، أوقعوا فيها أنفسهم وكثيرا من الشباب، فكان عليهم أن يكلوا الأمر إلى عالمه كما أمرنا الله -تعالى- في قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).

رابعًا: حصر الجهاد في مجرد القتال

     لقد حَجَّر هؤلاء واسعًا؛ حيث حصروا الجهاد في جزء واحد من أجزائه، وهو جهاد العدو بالسيف والسنان، ونسوا أن الله الذي أمر عباده أن يجاهدوا فيه حق جهاده لطيف بعباده ورحيم بهم؛ ولذا لم يكلفهم فوق طاقتهم، بل وسع عليهم، فيسر لكلٍّ جهادا بحسب قدرته، حتى المرأة يسر لها جهادًا لا قتال فيه وهو الحج والعمرة.

للجهاد معنيان

- ولذا كان للجهاد معنيان:  معنی خاص: وهو قتال الأعداء بالسيف والسنان، وهذا هو ما دار علیه كلام الفقهاء في باب (الجهاد).

- ومعنى عام: وهو استفراغ الجهد في طاعة الله ونصرة دينه، وفيه يقول الإمام ابن القيم في كلام نفيس له في تفسير قوله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} (الحج:78)، فقال -رحمه الله-: واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد؛ فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: «هو استفراغ الطاقة فيه، ولا يخاف في الله لومة لائم»، وقال مقاتل -رحمه الله-: «اعملوا لله حق عمله، واعبدوه حق عبادته»، وقال عبد الله المبارك رحمه الله: (هو مجاهدة النفس والهوى).

     و(حق جهاده) هو ما يطيقه كل عبد في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل، فحق التقوى، وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء آخر، وتأمل كيف عقب الأمر ذلك بقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، والحرج: الضيق، بل جعله واسعا يسع كل أحد.

خامسًا: استدلالهم بالعمومات

 وعدم الجمع بين النصوص

     استدل أصحاب هذا المسلك بالأدلة الآمرة بالجهاد في سبيل الله -تعالى-، منها قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة:193)؛ حيث قال أهل العلم: إذا كان الدين بعضه لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، فاستدلوا بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث العامة الآمرة بالجهاد في سبيل الله والمبينة أنه ذروة سنام الإسلام، وأهملوا تماما النصوص الأخرى التي تبين شروط الجهاد وضوابطه، فأوجبوا على الناس ما لم يوجبه الله -تعالى- عليهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك