رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. عبدالباسط شيخ إبراهيم 18 أغسطس، 2020 0 تعليق

المجاهرة بالمعاصي أكبر مهدد للأخلاق


من أجل إجلال الله -تعالى- وتعظيمه وتوقيره لا ينسب الشر إليه، مع أنه -تعالى- خلقه وقدره، وقد أحسن مؤمنو الجن عندما قالوا: {وَأَنّا لا نَدري أَشَرٌّ أُريدَ بِمَن فِي الأَرضِ أَم أَرادَ بِهِم رَبُّهُم رَشَدًا} (الجن ١٠)، وكان من دعاء نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «والشر ليس إليك».

     ارتكاب المعاصي ومزاولة الذنوب والموبقات تأتي من اختيار المرء وقناعاته الشخصية، ولا يكون الإكراه عليها إلا في حالات نادرة لا يؤاخذ بها صاحبها إذا كان كارها لها مدبرا عنها، ومقبلا بقلبه على الإيمان قال -تعالى-: {إِلّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإيمانِ} (النحل ١٠٦)، والذنوب والمعاصي سواء كانت صغيرة أم كبيرة تصاحب الإنسان في مراحل حياته، ولا ينجو منها إلا من عصمه الله -تعالى-، ففي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تَمَنَّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» متفق عليه.

حب الشهوة

     هذه الحواس التي امتن الله -تعالى- بها على الإنسان تتلذذ بما تشاهده أو تلمسه، أو تتحدث عنه، لأن حب الشهوة مجبولة عليها النفس، ومصداق ذلك قول المولى -جل في علاه-: {زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالبَنينَ وَالقَناطيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعامِ وَالحَرثِ ذلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ} (آل عمران ١٤).

ولا يلام على المرء إذا ما طلب واستمتع بهذه الشهوات بالطريقة التي أباحها الشرع مع التقيد بالضوابط والحدود المشروعة.

الذنوب والمعاصي مذمومة

     ومع كون الذنوب والمعاصي مذمومة غير محمودة إلا أن يزّل الإنسان قد يزل في وحلها، أو يستجيب لداعي النفس والشيطان في حالة الغفلة فيتلبس بها، وهذا وإن كان عيبا إلا أن العيب الأشد ألا يتوب منها ولا يرجع عنها، وقد قال الحبيب - صلى الله عليه وسلم - «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»، وفي التنزيل {وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ} (آل عمران ١٣٥).

فاعل الخير

     من المعروف أن فاعل الخير لا يشعر بالخجل في إظهار أعماله الصالحة بين الناس، ولكن لا تطاوعه نفسه بإشهار سيئاته أمام أصدقائه فضلا عن عامة الناس إذا كان في قلبه بقايا من إيمان، ففي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البر حُسن الخُلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس» مسلم.

حماية المجتمع

     إذا كانت الذنوب والمعاصي مخفية عن الأنظار ولا يُجهر بها فإنها لا تضر إلا من ارتكبها، ولأجل حماية المجتمع من إشاعة الفاحشة فيه، أوصى الشارع بستر الناس وعدم تتبع عوراتهم ما داموا لا يجاهرون بمعصيتهم، عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:  «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» حديث صحيح.

كارثة ومصيبة

     وإما إذا خرجت المعصية عن طور الكتمان وخرجت إلى العلن، وتباهى الناس بها، فحينئذ تتحول إلى كارثة ومصيبة لا يحمد عقباها، ولا تقتصر أثارها على فاعلها، بل تعم الجميع إذا لم يعلن أهل الخير والعلم النكير عليها وعلى مرتكبيها، ولأجل خطورة المجاهرة بالمعاصي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرَّجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» متفق عليه.

هتك لستر الله -تعالى

     المجاهرة بالمعاصي هتك لستر الله -تعالى- على عباده، واستخفاف بحقه -سبحانه-، وقال ابن بطال: «في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف» فتح البخاري ١٠/٤٨٧.

آثار فشو المعاصي

     أما الأثار المترتبة على فشو المعاصي بين الناس من دون نكير، مع جرأة أصحابها على المجاهرة بها، وإعلانها من دون خوف ولا رقيب لا يمكن حصرها ولا تعدادها في هذه العجالة، ولكنها إيذان بمصائب ومتاعب لا قدرة للأمة بمواجهتها، فعن  عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين قضوا..» حديث صحيح أخرجه ابن ماجه.

المجاهرة لم تكن وليدة اليوم

     المجاهرة بالمعاصي لم تكن وليدة اليوم، بل لم يخل عصر من العصور من أناس يجاهرون بها، وإن كانت النسبة والوسيلة المستخدمة في ترويجها مختلفة ومتباينة، ففي القرون التي عمّ فيها الخير، وسادها الأخيار وانتشر فيها العلم، وانحصر فيها الجهل، كانت المجاهرة بالمعاصي تكاد تكون شبه معدومة، وأما الأوقات التي يكثر فيها الجهل، ويقلّ العلم ويضعف التدين الصحيح، ويقبل الناس على الدنيا من دون مراعاة الحلال والحرام، فهناك يتسابق الناس إلى نشر الرذيلة دون خجل ولا حياء، وفي الحديث «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت».

قبل سنوات معدودة كانت طريقة المجاهرة بالمعاصي غير سهلة ولا متوفرة لكل أحد، بل كانت مكلفة ماديا، وكان الناس يتداولونها بصورة سرية غير معلنة ولا معروفة لكل الناس، ولأجل ذلك راوح انتشارها بين فئة معينة من الناس.

وسائل التواصل الاجتماعي

     وبعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وتطورها، ودخول البث المباشر العابر للقارات إلى البيوت من غير استئذان لأحد، ووجود شركات متخصصة في ترويج الرذيلة، بل وتدفع المال لكل من يقبل في مشاركة برامجها الموجهة في إفساد الأخلاق، وما صاحبها من ضعف الهيئات المنوطة في مراقبة السلوك العام بين المجتمع، وظهر ضعف التدين إلى العلن، واستهتر كثير من الناس قيم الشرع وحدوده - ساهم ذلك مساهمة كبيرة في ازدياد مظاهر نشر المعاصي علنا دون مواراة.

انتشار التقنية الحديثة

     وبسبب انتشار التقنية الحديثة وتملك الناس لآلات التصوير المتطورة، لم تعد نشر الفاحشة منحصرة في زمن معين، بل الكل يشارك في أي وقت شاء، فلم يقتصر الأمر بالتسجيل فقط ثم النشر فيما بعد، بل بسرعة النقل المباشر الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة لعملائهم أصبح نقل المناظر المحرمة والكلمات الخادشة للخلق والمروءة بادية للعيان، وبما أن كثرة المتابعين وازدياد المشاهدين للمادة المعروضة تدر على صاحب الحساب شهرة ورصيدا ماليا، لا يتورع كثير من الناس في نشر الموبقات على منصاتهم الرقمية.

أكبر مهدد للقيم والأخلاق

     المجاهرة بالمعاصي أكبر مهدد للقيم والأخلاق والمثل العليا، بل للعقيدة والشريعة قاطبة؛ لأنها قتلت روح الغيرة لدى الناس، وصورت الفضيلة والحشمة من مخلفات العصر، وهونت المعصية في أعين الناس، ووضعت الحرية الشخصية غير المنضبطة فوق كل اعتبار، وأوحت إلى الناس بأن الذوق الرسمي يتمثل في عرض ما عندهم من خبايا، وجعلت الأراذل والفساق وفاقدي المروءة وعارضي الموضة قدوة وأبطالا، وأن عصر المحرمات قد ولى دون رجعة، وغير ذلك من أساليب شيطانية تجعل الناس يتحللون عن دينهم وقيمهم وأخلاقهم الفاضلة.

معركة حياة أو موت

وأخيرا المعركة ضدّ هذا الوباء القاتل معركة حياة أو موت، وأن على أهل العلم والفضل والمروءة المبادرة في مواجهة هذا الغثاء ووقفه عند حده، وتحذير الناس من مغبة تعاطيه، وإلا فعلى القيم والأخلاق السلام.

  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك