رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 31 ديسمبر، 2019 0 تعليق

المؤمن لا ينتحر


ازدادت في الآونة الأخيرة معدلات جريمة الانتحار بين صفوف الشباب في عالمنا الإسلامي، وأظهرت الأخبار المتلاحقة والتقارير الاجتماعية والنفسية مدى تحول هذه الجريمة في العالم كله إلى ما يمثل الخطر المحدق ولاسيما بالشباب.

     ففي تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر بتاريخ 2 سبتمبر 2019م، أن هناك كل 40 ثانية حالة انتحار حول العالم، وأن الانتحار يعد ثاني أهم سبب للوفاة بين من تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما، وقد تنوعت الأسباب التي تؤدي بهؤلاء الشباب والأطفال إلى القيام بهذه الجريمة البشعة، وهي عند الشباب تختلف عن الأطفال (أقل من اثني عشر عاماً) بطبيعة الحال؛ لأن الطفل -كما يقول المختصون- لا يُقْدِمُ على ذلك عادة، إلا على سبيل اللعب أو المحاكاة للكبار، وفي حالات قليلة جداً يكون الإقدام على ارتكاب هذه الجريمة سببه المرض النفسي.

المؤمن لا ينتحر

     إن أسباب الانتحار كثيرة، منها الأسباب النفسية والعقلية والاجتماعية، لكن المؤكد أن الإيمان هو أكبر حصن حصين يقي الإنسان من الوقوع في هذه الجريمة مهما بلغت به الضغوط وأحاطت به الدوافع، وإذا كان المرض النفسي حقيقة واقعة، كونه مرضاً كأي مرض يصيب المؤمن وغير المؤمن، إلاَّ أن المؤمن حين يصدق إيمانه، تكون لديه من قوة اليقين حصانة تجاه ردود الأفعال غير المنضبطة بسبب ما يَرِدُ على قلبه من هموم وأكدار؛ فهو بالإيمان أثبت من غير المؤمن حيال ما تأتيه به الأقدار من شدائد وصعاب، لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له» (رواه مسلم).

التفكير في التخلص من الحياة

     فبينما يصل الأمر بالمكتئبين من غير المؤمنين إلى حد التفكير في التخلص من حياتهم؛ بحيث إذا ما تدهورت حال الاكتئاب عندهم وصل الأمر بهم إلى الانتحار فعلا، فإن الإنسان المؤمن في المقابل مهما أَلَمَّ به من أسى أو أحاط به سوء، يظل الوازع الإيماني لديه السياج الذي يحميه من ذلك السقوط؛ فالمؤمن يمرض نفسياً كما يمرض غيره، ويصيب نفسه من الهم والغم ما يصيب غيره أو أشد، لكن القاعدة الإيمانية التي تترسخ في نفسه تحميه من الانهيار، فلا يتطرق إليه هاجس الاعتداء على نفسه بالقتل، وسر ذلك يقينه بأنه مملوك لله، ليس حراً في ذاته يفعل بها ما يشاء، وبأن كل شيء من خير أو شر فإنما يجري بقدر سابق في علم الله، ثم هو مع ذلك لا ينقطع رجاؤه في الله، أن يأتيه ما وعد الله من اليسر بعد العسر؛ لأن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله.

الحياة إلى انقضاء

     ثم إن الحياة الدنيا بحلوها ومرها ونعيمها وعذابها مهما طالت فهي انقضاء، وما بعدها فإنما هو الجزاء والحساب والجنة والنار، المؤمن ينظر إلى الدنيا على أنها دار اختبار وامتحان؛ ولذلك فهي لا تخلو من المصاعب والهموم والمنغصات؛ لأنها امتحان، وليس من شأن الامتحان أن يكون سهلاً؛ لأنه على قدر البلاء سيكون الأجر، قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر، آية: 10). فلذلك ليس من شأن المؤمن أن ينتحر، ولا أن يفكر في ذلك أصلاً، ومن يُقْدِمُ على شيء من ذلك عامداً، قاصداً إنهاء حياته بيده، فلا شك أنه لم تترسخ جذور الإيمان في قلبه؛ ولذلك حين تخلف الوازع الإيماني الذي يحميه، وصار منفرداً عن الحماية تجاه الأسباب المادية النفسية أو الاجتماعية، التي لا تفتأ تضغط عليه فإنه يصل به الحال إلى الانهيار.

ذكر الله -تعالى- أعظم علاج

     يقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد، آية: 28). فالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير علاج، والقرآن علاج، سماعه شفاء للقلوب المضطربة والأرواح المعذبة، وتلاوته دواء لا يتخلف أثره، يقول ابن القيم -رحمه الله- -تعالى-: «القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه» (زاد المعاد، ج4، ص11).

الفرق بين العلاج القرآني والدجل

     العلاج بالقرآن في كثير من الأحيان يساء إليه من بعض الجهلة الذين حوَّلُوه إلى ما يشبه الدجل حين حولوه إلى وسيلة لكسب المكانة الزائفة في قلوب السذج، وأكل أموال الناس بالباطل؛ فبينما يأمر الله -تعالى- بالإكثار من ذكره، بالقلب واللسان، وبتلاوة كتابه، وتسبيحه وحمده؛ فالقرآن علاج، لمن لا يكون هاجراً له معرضاً عن تلاوته، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الأحزاب، آيات 41- 42)، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير علاج، حين يكون لك منه ورد تردده يوميا؛ فكثير من الهموم تنفك عقدها بالذكر لو تحصنا به، لكن الواقع أن التقصير هو دَيْدَانُنَا، روى الطبري بسنده، عند هذه الآية من سورة الأحزاب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «ما من فريضة افترضها الله على عباده إلا جعل لها حداً معلوماً ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، إلا الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يجعل لأحد عذراً في تركه إلا أن يغلب على عقله».

لكل داء دواء

     في قليل من الحالات يكون هناك بالفعل تأثير للجن على الإنسان، وهناك حالات أخرى تكون حال المريض قد وصلت به إلى حد من الانهيار مما يحتاج معه إلى معالجات دوائية، تحت إشراف طبي متخصص، وفي حالات أخرى كثيرة تكون نفسية، ويكون الإنسان بحاجة إلى دعم روحي إما بسبب هجره للقرآن والذكر والصلاة، أو لعدم توفيقه للأثر النافع للحالة النفسية رغم قيامه بالعبادات، إما بسبب إتيانه لتلك العبادات من صلوات وأذكار وقرآن بقصد مشوه ونية مشتتة تتحول معها تلك العبادات ذات الأثر العلاجي العظيم إلى مجرد حركات رياضية وألفاظ صماء ميتة أو باهتة، أو أنه يتعبد بلا همة فهو مواظب يوماً ومنقطع آخر.

الخطأ في تلمس العلاج

     ولا شك أن الخطأ في تلمس العلاج المناسب قد يُسِيء إلى نوع الدواء الموصوف، وهو أيضاً يؤخر الشفاء؛ لذلك على المسلم أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {إن الله -تعالى- لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت} (صحيح الجامع برقم: 1809)؛ ولذلك فإنه بقدر ما يمثله الدين وأذكاره وأعماله من حماية منيعة من الوقوع فريسة الأسباب المؤدية للانتحار، فإن الأمر بعد تفاقم المرض قد لا يصلح معه أن نستعين بمشايخ للعلاج فحسب، ولكن لابد من خطط علاجية ومتابعة مع أطباء نفسانيين، حتى لا نُحمِّلَ الدين أكثر مما يحتمل، ونصرف توجهاته إلى غير مصارفها، ثم يكون الندم بعد فوات الأوان.

المنتحر عذابه شديد

     المنتحر، قاتل، وهو قاتل في أبشع صور القتل، قاتل لنفسه التي كان ينبغي بحسب الفطرة السوية أن يحوطها بالعناية والنفع، فإذا به مع تهافت داعي الإيمان لديه، وبُعْدِهِ عن أسباب الراحة النفسية، والطمأنينة الروحية، بهجره القرآن الكريم، والصلاة، وذكر الله -تعالى-، يصبح عرضة للأفكار السوداوية، والمشاعر السلبية، مما يؤدي به إلى ذلك المصير المشؤوم، فحقيقة أمر المنتحر في الغالب الأعم أنه مجرم جنى على نفسه ببعده في مسيرة حياته عما قدره الله له لسعادته ونجاته حين قال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد، آية:28)، وقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات، آية:56)، ثم هو بعد ذلك مجرم في خاتمة أمره بإزهاقه لنفسه على ذلك النحو البشع؛ لذلك كانت عقوبته عند الله شديدة جداً وعادلة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» (رواه البخاري ومسلم).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك