رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 6 سبتمبر، 2022 0 تعليق

المؤسّسات التعليميّة ودور الأوقاف في إنشائها ورعايتها

 

لا يزال الوقف رصيدًا حضاريًّا وإنسانيًّا، استظل الناس جميعًا بظلّه زمانًا ومكانًا، وشاهدًا للأمة بتحقيقها للخيرية، ومبشرًا لها بالتمكين والرفعة، وللكشف عن كنوز الوقف، وما وقع في ميدانه من الإبداعات والروائع والإشراقات، ولتدوين إسهاماته الحضارية منذ القرن الأول إلى أيامنا التي نعيش، نعرض بعضاً من نماذجه الرائعة.

     إنّ المتتبّع لتاريخ أمصار الإسلام منذ القرون الإسلاميّة المبكّرة، يجد -وبلا مبالغة ولا تهويلٍ- أنّ المؤسّسات التعليميّة التقليديّة وهي المدارس الشرعيّة والكتاتيب، كانت تقومُ حقًّا مقام الكليّات والجامعات والمعاهد في وقتنا الحاضر، بكلّ ما في الكلمة من معنى، ولا تنقصُ عنها شيئًا، بل قد تزيدُ!

المدارس الإسلاميّة

      إنّ النّظام الذي كان متّبعاً في المدارس الإسلاميّة، في إدارتها وتمويلها وتنظيمها، وأُسس تقييم الطلّاب والمدرّسين، والروح التي كانت سائدةً فيها، من الانتماء إلى العلم وتسخير كلّ الطّاقات من أجل تحصيله، يُنبئ عن مستوى الرقيّ الحضاريّ الذي سبقَت فيه الأمّة الإسلاميّة غيرها بقرونٍ طويلة جدًّا.

المدارس الشرعيّة

     ونحن عندما نقول: المدارس الشرعيّة، فإنّه يُخطئ من يظنّ أنّ هذا الوصف ينصرف فقط إلى أماكن كانت تُدرس فيها العلوم الشرعيّة فقط، بل قد كان فيها إلى جانب ذلك علوم الطِّبِّ، والتاريخ، والجغرافيا، والفلك، والمنطق والفلسفة وغير ذلك، حتى كانت توفّر لروّادها إشباعاً علميًّا ومعرفيًّا لا مزيدَ عليه، ولا غاية بعدَه، ولذا لم يكن عجباً أن كانت هذه المدارس منتجاً للعلماء، وحاضناتٍ لهم، ومصدِّراً للدُّعاة والمُفتين والقُضاة والمحتسبين، ورافداً بالأكفاءِ لكلِّ مجالات الحياة الإسلاميّة.

اعتناء المجتمع الإسلاميّ بالمدارس الشرعية

      اعتنى المجتمع الإسلاميّ بأطيافه ومستوياته الاجتماعيّة بهذه المدارس الشرعيّة والكتاتيب كلَّ عناية ممكنة، وتفنّن المسلمون في ابتكار أفكارٍ لخدمتها ووسائل لديمومتها، فتفتّقت الأذهان عن أنماطٍ وقفيّة على إعمارها وتوفي أدواتها وخدمة روّادها، تُعدُّ بحقّ، روائع حضاريّة، بل منعطفات حقيقيّة في التاريخ الإنسانيّ كلّه، في مجال خدمة العلم والعلماء، في جانب سدّ احتياجاتهم العلميّة والإنسانيّة، والحفاظ على تفرّغهم للقيام بما لا يُحسنه سِواهم.

آثار الأوقاف

     ولعلّ من أهمّ آثار الأوقاف في هذا الجانب بحقّ، هو التفرّغ التامّ الذي توفّر للعلماء، نتيجةً لضمان أرزاقهم من غلّات الأوقاف، وما يلحق ذلك من صفاء الذهن، والاستقلاليّة الماليّة التي تستتبعُ الاستقلاليّة الفكريّة بلا أدنى شكّ، بحيثُ كان المخدومُ بكلّ هذا العطاء هو دينُ الله حقًّا وصدقاً، بعيداً عن أيّة أغراضٍ أو مآرب أو شوائب.

     وما تفرُّغ النّوويّ وعزّ الدِّين بن عبد السلام من العلماء، وابن النّفيس وأبا بكر الرّازي من الأطبّاء، إلّا مجرّد أمثلةٍ يسيرةٍ على ما نقول، وهل نبحث عن دليلٍ أكثر من أن يعيش أحمد بن ثبات الهماميُّ الواسطيُّ في المدرسة النّظاميّة ببغداد أربعين عاماً؟! وهو جمالُ الدّين أبو العبّاس أحد قُضاة الشافعيّة، عالمٌ بالحساب والفرائض.

دور الوقف الحقيقي

     ومن الجدير بالذّكر أنّ الوَقْف على الحقيقة، هو الذي نهضَ كما هو ثابتٌ -تاريخيًّا- بأعباء المسؤوليّة التعليميّة وتبعاتها الماليّة، فإنّ التعليم لم يكن معتمدًا على الدّولة أبداً، وإنْ كان مسؤولو الدّولة لهم مشاركةٌ فعّالةٌ في الوقف على التعليم، لكن بصفاتهم الشخصيّة لا الرسميّة، ومن أموالهم الخاصّة في أكثر الأحيان.

رعاية الفرد المسلم

     ورعَت الأموالُ الوقفيّة بسياستها الماليّة الرائعة الواضحة، وتوجُّهات الواقفين السامية وتطلُّعاتهم التي أكّدوا عليها في شروطهم، الفردَ المسلمَ الذي يطلب العلمَ من طفولته المبكّرة وهو يخطو أولى خطواته إلى الكتّاب، يتعلّم حروف الهجاءَ وكيفيّة النُّطق بها، إلى أن يُوارى في لحده، بل امتدّت في كثيرٍ من الأحيان بركاتُهَا إلى رعاية أهله وزوجاته وأولاده من بعده، ترغيباً في التوجُّه إلى العلم، وشرحاً لصدور الذين بذلوا أنفسهم من أجله وهجروا اللّذات والصّنائع والمكاسب حرصاً عليه وتقديراً لأهميّته.

     وقد سجّل الرحالة الكبير ابن جبير في رحلته المشهورة انفعالاته ومدى انبهاره بكثرة المدارس والكتاتيب في القاهرة والشام، ومثله فعل ابن بطوطة كذلك، وهو انطباع ظاهر لا يفارق سطور الرّحلتَيْن، وسيأتي نقل بعضه.

     ونحن نقول هنا ونحن نحاول نقل صورة كليّة عن الحياة الإسلاميّة في العصور السابقة عن طريق نقل هذه النُّبَذ، إنّ مجّانيّة التعليم التي يتشدّق بها الغربُ اليوم، والذي تتحدّث عنها الدّول المشرقيّة كأنها من الأمانيّ التي لا تُنال، قد كانت محقّقة في العالم الإسلاميّ في طوله وعرضه بأموال الأوقاف، ومحمولةً على أكتاف أهل الخير.

     وكلُّ الباحثين والمؤرخين قد اتفقوا على أنّ المدارس والرُّبط والخوانق والكتاتيب، لم تكن يُنفَق عليها إلّا من أموال الأوقاف، والتي على الرغم من ضخامة المشروع العلميّ منها أحياناً، فقد كانت غِلال أوقافه تزيد عن حاجته أضعافاً، في أمّةٍ استولت على أذهانها هدايات كتابها العزيز، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77).

ولعلّ العرضَ المختصر الآتي لبعض الأمثلة يوضّح المزيد ممّا أردنا قولَه، وقصدنا إلى إحيائِه والتّذكير به.

 

المدرسة الحلّاويّة (الحَلَويّة) بحلب

     أنشأها الملك العادل نور الدين زنكي عليه -برّد الله مضجعه- عام 543هـ في حلب، ولا يبدو أنّ ثمّة مدرسة اشتُقَّ اسمُها من بعض لطائفِ عطائِها كما هو الحال مع هذه المدرسة، «وقد شَرَطَ الواقف أن يُحمل للمدرسة في كلِّ رمضان من وَقْفِها ثلاثة آلاف درهمٍ يُصنع بها للفقهاء طعامٌ، وفي ليلة النصف من شعبان يُصنع حلواء معلومة، وفي الشتاء ثمن بياض، لكلِّ فقيه شيء معلوم، وفي أيّام شرب الدّواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يُحتاج إليه من الدّواء والفاكهة، وفي المواليد أيضاً الحُلْو، وفي الأعياد ما ينفقونه دراهم معلومة، وفي أيام الفاكهة ما يشترون به بطيخاً ومشمشاً وتوتاً».

المدرسة المستنصريّة ببغداد

     بناها الخليفة المستنصر بالله الذي ولي الخلافة العبّاسيّة عام 623هـ، قال فيه ابن تغري بردي: «باني المدرسة المستنصرية ببغداد، التي لم يُبْنَ في الإسلام مثلُها في كثرة أوقافِها وكثرة ما جُعل فيها من الكتب»، وقد كانت المستنصريّة هذه ببغداد، على شاطئ دجلة الشرقيّ، «وقد وَقَفَها على المذاهب الأربعة، وألحق بها مستشفىً وحمّامًا ودارَيْن؛ أحدهما للقرآن الكريم، والآخر للحديث الشريف».

      وقال الذهبي مؤرِّخًا لسنة 631هـ: «وفيها تكامل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، ونُقل إليها الكتب وهي مائة وستون حملاً! وعدّة فقهائها مائتان وثمانية وأربعون فقيهاً من المذاهب الأربعة، وأربعةٌ مدرّسون، وشيخُ حديث، وشيخُ نحو، وشيخُ طِبٍّ، وشيخُ فرائض... ورُتِّب فيها الخبز والطبيخ والحلاوةُ والفاكهة.

وشَرَطَ لكلِّ مدرِّسٍ أربعةَ معيدين، واثنان وستون فقيهًا، وأنْ يكون بالدّار المتصلة بالمدرسة ثلاثون يتيماً يتلقّنون.

      ويتابع السيوطي مفصِّلاً: «ورتَّب فيها مطبخاً للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتَّب لبيوت الفقهاء الحُصُرَ و البُسُطَ والزيت والورق والحبر وغير ذلك، وللفقيه بعد ذلك في الشهر ديناراً، و رتَّب لهم حمَّامًا، و هو أمرٌ لم يُسبق إلى مثله»، وفوق ذلك فقد خُصّصت للمدرّسين فيها وسائل نقلٍ، من خيولٍ وغيرها، وكانت نفقاتها مكفولةً مجهّزةً لها.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك