رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبوبكر القاضي 23 مايو، 2019 0 تعليق

اللياقة القرآنية!

 

عن أبي بردة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى ومعاذًا -رضي الله عنهما- إلى اليمن؛ فقال: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا»؛ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَرْضَنَا بِهَا شَرَابٌ مِنَ الشَّعِيرِ المِزْرُ، وَشَرَابٌ مِنَ العَسَلِ البِتْعُ؛ فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»؛ فَانْطَلَقَا؛ فَقَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى: كَيْفَ تَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قَالَ: قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي. (رواه البخاري).

قال ابن الأثير -رحمه الله-: «قوله: «وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا»: يعني قراءة القرآن، أي: أقرأ وردي منه دفعة واحدة، لكن أقرؤه شيئًا بعد شيء في ليلي ونهاري، مأخوذ مِن فواق الناقة؛ لأنها تحلب ثم تراح حتى تدر ثم تحلب» (النهاية في غريب الحديث والأثر).

     هذا الحديث يبيِّن علاقة الصحابة -رضي الله عنهم- الذين فتح الله على أيديهم قلوب العباد والبلاد بالقرآن الكريم، وكيف كانت لياقتهم القرآنية، نعني اختلاط القرآن بشحمهم ولحمهم حتى أصبحت حياتهم ممزوجه بأورادهم، غذاء قلوبهم وأرواحهم، ووقود دعوتهم وربانيتهم في الدعوة والبلاغ المبين لرسالات الله.

     فبعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم لطبيعة الدور الذي ابتعث أبا موسى ومعاذًا -رضي الله عنهما- له مِن تحقيق وإظهار مقاصد هذه الشريعة الغراء مِن التيسير دون التعسير، والتبشير دون التنفير، ثم مفتاح ذلك مِن المحبة والمودة والإيثار بينهم، وهضم النفس في ذلك العمل الجماعي الرصين (وَتَطَاوَعَا)، إذا بالرجلين يتذاكرن أهم محور في حياة الصحابة ونقطة القوة في ريادتهم وقيادتهم لذلك العالم، وهي علاقتهم بالقرآن، ومرونة انسياب القرآن في أوقاتهم، وسهولة ذلك؛ مما يبيِّن قلة التكلف والتصنع، وخفة القرآن على القلوب والألسنة؛ لكثرة المراس والمران، وحلاوة الإيمان.

فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : «قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا»، وكأنه يتجرع ورده مِن القرآن جرعة جرعة ليتلذذ به ويتدبره ويتأمله؛ لأنه أصبح له روحًا وهدى.

     ليس الورد ضغطًا نفسيًّا أو ثقلًا يريد أن يتخلص منه دون أن يتشرب قلبه معانيه وأنواره، وأيضًا يقرؤه على جميع حالاته في حله وترحاله، وفي بيته وفي شارعه، متمثلًا في ذلك ميدانية القرآن وضربه بأطنابه في جسد الحياة واختلاطه بذهن المؤمن وأفكاره وطموحاته بين الناس (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام:122)، رافعًا لذلك الشعار والراية القرآنية على شفتيه التاليتين وعينيه الدامعتين، وقلبه الوهاج بالنور، ولا يجد في ذلك كلفة ولا مشقة؛ وذلك لما يجده مِن لياقة في قلبه، وقوة في استيعاب الآيات لفظًا ومعنى وتخلقًا مع إتقانها، والقرآن لا تنفتح أبوابه إلا للصادق في محبته؛ فهو قرآن كريم، لا يرد سائلًا، لكنه عزيز لابد أن تبذل له لكي تجد بركاته وأنواره.

     وعلى حسب بَذْلك وجهدك ترتفع لياقتك حتى تجد كلفة في وصالك مع القرآن، وتتفوق وردك تفوقًا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)، ويختلط القرآن بيومك ارتباطًا عميقًا، وتسري البركة في وقتك وقلبك، وفي أثرك، وسعيك، ودعوتك، وعلمك، وعبادتك.

     وقد يكون الإنسان له طابع آخر يصلح عليه قلبه في إتيانه بورده مرة واحدة بالليل كمعاذ رضي الله عنه ؛ فينام ويقوم؛ ولذلك هذا الأمر متوقف على ما هو أصلح للقلب، ويظهر ذلك بصدق إرادة العامل وممارسته وتجربته نفسه، وتزداد اللياقة بعمق المعاشرة مع القرآن، واستبطان حبه القلب، والقدر المشترك بين الأداءين، هو التدبر، والتلذذ، ونزول القرآن دواءً وشفاءً.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك