رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 29 سبتمبر، 2020 0 تعليق

اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم


يقول الله -تعالى- في كتابه الكريم: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (سورة الأحزاب، آية:50)، هذه بعض آية جليلة من سورة الأحزاب؛ حيث نزلت السورة الكريمة في أعقاب الغزوة التي تمالأت فيها قبائل العرب على غزو المدينة المنورة لاستئصال شأفة المسلمين، والقضاء على الإسلام، فنزلت سورة الأحزاب لتقرر المسلمين بنعمة الله عليهم؛ إذ صد عنهم تلك الهجمة الشرسة برياح سلطها على المشركين فأربكتهم وجعلتهم يفرون مخلفين وراءهم أشياءهم وأزوادهم.

     وفي ثنايا ذلك التقرير، نجد السورة الجليلة قد امتلأت بالعديد من الأحكام التي تنظم العلاقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعلاقته بأهل بيته، فتقررت فيها أحكام تنظم بيت النبوة من الداخل، وتقررت فيها حدودٌ للمؤمنين يجب أن يراعوها فيما يتعلق بنبيهم وآل بيته، وتقررت أيضاً حقوق وحدود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يتعلق بمسألة زواجه، ليكون تطبيقه لها بمرأى ومسمع الجميع، فلا يتصور فاسد في يوم ما أن الشأن النبوي على المستوى الشخصي والأسري كان بعيداً عن تشريع الله -تعالى.

الشأن النبوي في سورة الأحزاب

وإذ تعرضت سورة الأحزاب لقضايا تشريعية تتعلق ببيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فربما يثير ذلك تساؤلا عن الغرض من سبب إثارة هذه القضايا في سورة تتحدث عن شأن عسكري، فما العلاقة بين الحرب والأسرة والانتصار وتنظيم البيت من الداخل؟

     وجواب ذلك: أن الأمن الخارجي لا يمكن أن يتحقق إلا بأمن داخلي كامل، وعلى قدر استقرار المجتمعات من الداخل تترسخ مكانتها ومصداقيتها في نظر غيرها من المجتمعات، وإن وضع تشريع يحكم علاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنساء، من الأهمية بمكان، لأنه يرسخ مبدأ خضوع الجميع لتشريع الله -تعالى-، فلا أحد في مجتمع الفضيلة فوق ذلك القانون، وكذلك فإن بيان حق كل ذي حق، وما عليه من واجبات، هو من أهم لبنات بناء المجتمع المستقر التي هي أيضاً بدورها أهم لبنات بناء الدولة المتماسكة، لذلك يأتي الحديث في سورة الأحزاب، عن مسائل تتعلق بالأسرة، وتنظم في نصوص واضحة قضايا مهمة تتعلق بالنساء، والزواج، والحجاب.

لسن كسائر النساء

     نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لسن كسائر النساء: فلقد تقررت لهن مكانة عالية في سورة الأحزاب، تفوق منزلة سائر النساء، فهن: (أمهات المؤمنين)، ولذلك تقررت عليهن أحكام فيها مزيد من العناية، يقول القرطبي رحمه الله -تعالى-: «قوله -تعالى-: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} يعني في الفضل والشرف. ثم قال: {إن اتقيتن} أي خفتن الله. فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن» (الجامع لأحكام القرآن، ج14، 177).

النساء اللاتي وهبن أنفسهن

     عندما تتميز امرأة ما بذلك القدر وتلك المكانة، فتكون زوجاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كل امرأة مؤمنة ستتطلع إلى أن تبلغ من المنزلة والشرف مثل ما بلغت الأخرى بقربها منه - صلى الله عليه وسلم -، هذا طبيعي، لذلك كانت النساء تأتي لتعرض عليه أن يتزوج بهن من غير مهر، تخفيفا عليه، وحباً منهن للقرب منه، - صلى الله عليه وسلم -، لكن العارف لشخصه الكريم، يدرك أن تلك العلاقة لم تكن تعني له الكثير، كونه غير حافل بها ابتداء؛ إذ لم ينشغل بها قلبه وهو في أوج شبابه ولا بعد ذلك، وقد سبق إثبات ذلك في المقالتين السابقتين، ولكن تأتي إليه النساء لتلتمس منه القرب بزواج شرعي بغير مهر، فليس معنى الهبة تزويج بلا شهود كما توهم الجاهلون؛ إذ لفظ الهبة في الشرع والعرف واللغة لا ينصرف إلى ذلك في شيء من العقود، إنما الهبة تمليك بلا عِوض.

معنى الهبة

     فالهبة حين تُذكر لا تنصرف إلى شيء من شروط العقد أو أركانه، إنما تنصرف إلى الثمن في البيوع، وكذلك إلى المهر في الزواج، وليس أكثر من ذلك، فحين تأتي امرأة فتقول له (وهبتك نفسي) فإنها تعني تزوجني بغير مهر، (تخفيفاً عليه)، وقد أحل له الله -تعالى- أن يقبل بذلك إظهارا لحفاوة الله -تعالى- به، تلك الحفاوة التي عّبَّرت عنها عفوية أم المؤمنين عائشة حين قالت له: «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، أي يعطيك ما يمكن أن تهواه وإن لم تكن تهواه، فالله يبيح له الشيء من باب الحفاوة، لكنَّ شأنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأتي كُلَّ ما أُحِلَّ له، فقد كان أسوة في الزهد والقناعة لا يُقْدم على شيء من متع الدنيا إلا بمقدار حاجته أو حاجة غيره إليه، فليس معنى أن تأتي امرأة فتقول له وهبت لك نفسي، أنها قد صارت بذلك موهوبة له، إنما لابد من توافر القبول منه - صلى الله عليه وسلم -؛ وحيث لا حاجة لذلك فإن القبول لا يتم، ولذلك ليس في كتب السنة ولا السيرة ما يدل بدليل صحيح على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَبِلَ الزواج بامرأة.

الهبة وقعت من كثير من النساء

     وممن وهبن أنفسهن له، جاء في روائع البيان: «ذهب أكثر العلماء إلى أن الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة منها القوي ومنها الضعيف في أسماء الواهبات أنفسهن، منهن أم شريك، وخولة بنت حكيم، وليلى بنت الخطيم، ولكن لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهن أحد، وقيل ميمونة بنت الحارث وزينب بنت خزيمة كذلك من الواهبات أنفسهن والصحيح هو الأول. قال أبو بكر ابن العربي: وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة موهوبة. قال ابن كثير: اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - كثير، كما قال البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله -تعالى-: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» (ج2، ص313).

ليس كسائر الرجال - صلى الله عليه وسلم 

     لقد تقرر في الشرع الحكيم جواز جمع الرجل الواحد بين أربع من الأزواج، فله أن يتزوج بأي عدد شاء من النساء شريطة ألا يجمع بين أكثر من أربع، وليس لرجلٍ أن يتزوج امرأة بلا مهر، فالمهر دَينٌ عليه في عُنقه يجب أن يؤديه إليها، ولو بعد سنين من الزواج، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تقررت في حقه أحكام أخرى، حيث قال الله -تعالى- له: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} (الأحزاب، آية: 52). قال قتادة: «لماَّ خيرهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة قصره عليهن؛ وهن التسع الآتي اخترن الله ورسوله» (جامع البيان، ج20، ص297). فبينما يحل لكل مسلم أن يتزوج العدد الذي يشاء، بشرط عدم الجمع بين أربع، لا يحل له - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بامرأة أخرى من سوى التسع الآتي كن في عصمته وقت نزول الآية الكريمة.

عدد من الدلالات

     إن تشريع زواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن دل على أنه مختلف، لكن لم يكن فيه ما يدل على أن الله خصه بشيء زائد يتعلق بالنساء، إنما هما تشريعان منفصلان، تشريع له - صلى الله عليه وسلم - يتناسب وظروف مسؤولياته؛ وتشريع لأمته يتناسب مع قدراتهم وما يُحمِّلُهُمُ الشرع من تبعات؛ وقد روعيت في كلا التشريعين: أولاً: مصلحة النساء، بقدر ما روعيت مصلحة الرجال، فقد أحل الله للرجل الجمع بين أربع منهن حتى لا تبقى منهن واحدة بلا زوج، ولا عائل، وثانياً: مُنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الزيادة على من في عصمته تقديراً لزوجاته أمهات المؤمنين وإكراماً، وقد قال له في شأن قريب من ذاك: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} (الأحزاب، آية: 51).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك