رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أحمد بن عبدالعزيز الحصين 31 يوليو، 2012 0 تعليق

الكنيسة الشرقية، وفشلها في المواجهة العسكرية


إن الحروب الصليبية التي خاضتها دول أوروبا في عصورها المظلمة، لم تكن في الواقع للسيطرة على مدينة القدس، وانتزاعها من المسلمين، بقدر ما كانت حربا سياسية واستعمارية هدفها السيطرة والهيمنة الفكرية والدينية والاقتصادية، وجاءت خطبة البابا أربان الثاني دليلا قاطعا، ولاسيما بعد أن حرّض فيها ملوك أوروبا، على غزو بلاد الشرق والقضاء على أتباع محمد، وذبح أنصاره، الذي يفرضون سلطانهم على بيت المقدس، أرض المسيح(1).

         كشفت كلمة اللورد (اللنبي) صدق التوجه، بعد أن استولى على القدس في الحرب العالمية الأولى، عندما أعلن انتهاء الحروب الصليبية وعدم انتهاء الحرب الاستعمارية.

         وحين فشلت الحروب الصليبية المتعاقبة على المسلمين وحملاتها المسمومة تبلورت خطة الكنيسة باستخدام حركات التبشير والاستشراق، بدلا من الحروب المسلحة، لغايات سياسية ضاعفت من حقد الأوروبيين وتعصبهم.

         وكان المستشرق الإسباني (ريموت رول) الذي تعلم العربية وجال في بلاد المسلمين، وناقش علماءها، أول من استخدم هذا السلاح الجديد، ونادى بإيجاد كرسي للدراسات الشرقية الإسلامية في جامعات أوروبا، وذلك للأسباب الثلاثة الآتية:

1- إيجاد دراسات تاريخية ودينية، تشوه الإسلام وتحط من تعاليمه وقيمه.

2- إدخال مفاهيم الغرب العصرية العلمية والمادية للطلاب الموفدين من البلاد الشرقية.

3- القضاء على قوة العرب والمسلمين والسيطرة على الثروة الاقتصادية في بلادهم.

         وهكذا تسلل المستشرقون ورجال الكنيسة إلى بلاد العرب والإسلام، وأخذوا ينفثون سمومهم، ويحوكون مؤامراتهم مستخدمين المدارس الرهبانية والمعاهد التبشيرية وضغط دولها الأوروبية(2).

         وقد أساؤوا استعمال العلوم عندما حولوها لمصالح دولهم السياسية، وجعلوا الغرب في مواجهة عسكرية مع الشرق، الذي مدهم بمختلف أنواع العلوم والمعارف الإسلامية.

         وهكذا سيطرت أوروبا على الشرق بمعاونة المستشرقين ليكونوا لهم ركائز لنشر الكذب والبهتان وتغريب العقلية العربية والإسلامية وترويج مناهجها التربوية والتعليمية، وإغراق العالم العربي والإسلامي بفكرها المادي، ليتمكن الاستعمار الثقافي والسياسي من أن يفرض طروحه المختلفة، ويتدخل في شؤون البلاد الداخلية، ويجعل في المقابل معظم الدارسين لحركته الاستشراقية يؤكدون أن عمل هؤلاء قد انطوى على نزعتين رئيستين:

- الأولى: سيطرة الاستعمار الغربي، وتمكينه من توجيه السياسة، حسب مصالحه ومنفعته الخاصة.

- الثانية: تشويه مواقف العرب والمسلمين، وغرس شبهات حول مقدساتهم، تحت غطاء البحث العلمي والغاية الإنسانية العامة.

         وقامت الكنيسة بمعونة المستشرقين الاستعماريين بتشويه الإسلام وحجب الرؤية الصحيحة عن الإسلام في الوقت الذي كانت الكنيسة تعيش في ظلمات الجهل والتخلف، ولولا الإسلام ورسالته العظيمة ما عرفت أوروبا العلوم التي بهرت العالم الأوروبي إلى يومنا الحاضر ولكن الحقد الدفين الذي أعمى بصائر القساوسة وأعوانهم من المستشرقين حجب الرؤية الصحيحة عن الإسلام.

         وبهذا يقول محمد عبده في رده على (هانوتو) رئيس وزراء فرنسا: إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنّية الحاضرة، كانت من تلك الشعلة الموقدة، التي كانت يسطع ضؤوها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها قرونا عدة ً، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، واليوم نرى أهل أوروبا ما نبت في أرضهم، بعدما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة(3).

سقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وأثر ذلك

         أتناول فيه الأثر لسقوط القسطنطينية عاصمة الدول البيزنطية، على يد السلطان المسلم العثماني (محمد الفاتح)(4)، وصدى هذا الأثر في الشرق والغرب، وما ترتب عليه من ردود فعل.

         وسوف أعرض لكل محاولات الكنيسة الشرقية، خلال المواجهة مع الإسلام، من خلال النيل منه عقيدة وشريعة، ثم آخر المحاولات الصليبية العسكرية وفشلها.

         عندما انتشر الإسلام في بقاع الأرض، اعتنقه كثير من المسيحيين، ولاسيما في بلدان كانت تعتبر مهدا للمسيحية نفسها، كبلاد الشام ومصر، وظن رجال الكنيستين الشرقية والغربية(5)، أنه لا مناص من وقف هذا الزحف الإسلامي، إلا بالقوة.. ولكن فشلت كل جهودهم ومحاولاتهم في سبيل ذلك، وحتى في استرداد ما فقدته «الدولة البيزنطية» على أيدي المسلمين.

         وقد أثبتت حوادث التاريخ، مدى ضعف الدول البيزنطية، في مواجهة الإسلام حتى منذ تعرضت عاصمة «القسطنطينية» لحصار المسلمين ثلاث مرات في صدر الإسلام، ومرورا بالضربة القاصمة التي تلقتها على أيدي سلاجقة المسلمين في الواقعة الشهيرة (ملاذكرد) عام 1071م، وأخيرا سقطت العاصمة الصليبية مقر الكنيسة الشرقية(6)، على أيدي (محمد الفاتح) السلطان العثماني عام 1453م، ومنذ ذلك التاريخ تجددت أحقاد الصليبية الشرقية ضد الإسلام، وبدأت مرحلة المواجهة الهادئة الخفية، التي تمثلت في إلصاق الخزعبلات بالإسلام وإحاطته بالأساطير؛ ظنا من رجال الكنيسة الشرقية، أن ذلك الأسلوب بمقدوره النيل من الإسلام العقيدة والشريعة والمنهج، لكن هيهات.. هيهات.. فلجؤوا إلى الجدل والمناظرات العقيمة، مستخدمين كافة الأسلحة فطوروا أسلوب المواجهة والأسلحة الفكرية التي تحمل كثيرا من الدس والشبهات والافتراءات(7).

         كما اندفعت القوة الإسلامية لتجعل البحر المتوسط بحيرة عربية وتتوغل من أوروبا (8) عبر الأندلس وجزر البحر المتوسط حتى تصل إلى جنوبي فرنسا وإيطاليا.

وهددوا (فيينا) بعد أن أشرفوا على سواحل بحر الأدرياتيك(9).

         ولم تستطع أوروبا الوقوف أمام هذا المد الجهادي والسياسي، وقد كشفت الحملات الصليبية المتتابعة التي دامت قرنين من الزمان 1093-1295م في تحقيق الأهداف الرئيسة للكنيسة والأمراء والملوك.

         وكان حصول النكسات الحربية لأوروبا فيها سببا لتعالي الصيحات لنقل المعركة من ساحة المواجهة العسكرية إلى ميدان المعرفة، وكان   من أوائل من دعوا إلى إحلال التبشير وسيلة للتدمير بدل الحرب القديس بطرس الراهب(10)(11).

ثم جددت الدعوة لإحلال التبشير بدل الحرب على يد الفيلسوف المشهور (روجر بيكون)(12) سنة 1266م الذي وجه إلى البابا رسالة دعاه فيها إلى:

أ- وجوب إدخال اللغات الأجنبية (ولاسيما العربية) في مناهج الدراسات الجامعية وذلك كوسيلة للتبشير ونشر المفتريات ضد الإسلام.

ب- دراسة أحوال من يراد ردتهم لتسهيل معرفة المسارات التي يمكن النفاذ بها إلى عقيدة المسلمين لهدمها وتقويضها(13).

ومن ثم فإن بعض المتمردين على تعاليم الكنيسة وجدوا في الإسلام فرصة لتفكيرهم وتخلصا من سلطان كنائسهم على عقولهم حيث أظهر بعضهم إعجابه بالإسلام.

وهذا أفزع الكنيسة ودفعها لمحاربة الإسلام بثلاثة اتجاهات:

1- الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه، والافتراءات عليه بمختلف الأكاذيب لشحن أتباعها ضده وتنفيرهم منه، والإثبات لجماهيرهم التي تخضع لسلطانهم أن الإسلام هو الخصم الوحيد للمسيحية وهو دين لا يستحق الانتشار، زاعمة أن أتباعه - على حد زعمهم- قوم متخلفون، سراق نياق، سفاكو دماء، يبحثون عن المتعة الرخيصة، إلى غير ذلك من الأباطيل والافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة(14).

2- حماية النصارى من خطر الإسلام -كما يزعمون- بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة، وآياته البينة الواضحة، وتاريخه المجيد حتى لا يؤثر عليهم فيدخلوا فيه.

3- محاولة تنصير المسلمين، فمن أجل ذلك جهزوا جيوشا من المنصرين لهذا الغرض، ووضعوا بين أيديهم الإمكانيات الكبيرة لإعطاء الثقة لمن فقدها من أبناء جنسهم ولهز ثقة المسلمين أنفسهم في دينهم.

         ومن أجل هذا الغرض عقدوا مؤتمرات عدة بدءا بمؤتمر فيينا الكنسي سنة 1312م الذي قرروا فيه إنشاء كراسي جامعية باللغة العربية كما حصل في جامعة كمبردج آنذاك وغيرها؛ ليسهل عليهم التعرف على الإسلام ولذلك أنشأوا المجلات العلمية لنشر أفكارهم ودسائسهم فيها كمجلة العالم الإسلامي سنة 1916م Themuslim world برئاسة )(صموئيل زويمر) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط، كما أكثروا من التأليف عن الإسلام بكتب فقدت روح البحث العلمي؛ لما حوته من تفاهات وأساطير وأباطيل وقلب الحقائق عن الإسلام (15).

يقول المستشرق الروسي كارادي  Carra de  vaux: ظُلم محمد زمنا طويلا معروفا في الغرب، فلا تكاد توجد خرافة ولا فظاظة إلا نسبوها إليه(16).

هوامش:

1- نجيب الكيلاني: الإسلام والقوى المضادة، مؤسسة الرسالة- بيروت 1980ص/13.

2- مصطفى الخالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار، المكتب الإسلامي- بيروت 1979م/ص118.

3- شوقي أبو خليل، الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين، ص223 ط(1) دار الفكر- بيروت 1416هـ، 1995م ص/11.

4- محمد الثاني (الفاتح) (1429-1481م) فاتح القسطنطينية سنة 1453م.

5- تسمى الكنيسة الكاثوليكية بالغربية واللاتينية، أو البطرسية، أو الرسولية، ومعنى الكاثوليكية أي العامة؛ لأنها تدعى أم الكنائس ومعلمتها، ولأنها وحدها هي التي تنشر المسيحية في العالم، وسميت غربية أو لاتينية لامتداد نفوذها إلى الغرب اللاتيني خاصة. انظر محمد فؤاد الهاشمي: الأديان في كفة الميزان ص44.

6- الكنيسة الشرقية: تسمى الكنيسة البروتستانتية وهي إحدى الكنائس الإصلاحية الدينية التي قادها الراهب الأوغطسيني والأستاذ الجامعي مارتن لوثر (1483-1546).

The Encycropedia Amcricanna yo1.6.p.69

7- محمد الفاتح عليان (دكتور) أضواء على الاستشراق، دار البحوث العلمية، الكويت 1400هـ-1980م ص/19.

8- يقول الدكتور محمد جميل خياط: دخل الإسلام إلى أوروبا بعد القرن الأول للهجرة، أي في بداية القرن الثامن الميلادي، وذلك حين قام طارق بن زياد بفتح الأندلس عام 711م. انظر: أضواء على الاستشراق، محمد عليان (دكتور)ص19.

9- عرفان عبدالحميد (دكتور) التراث العربي الإسلامي والاستشراق الأدبي- مجلة بغداد 1982م ص/69.

10- بطرس (1092-1156) هو راهب فرنسي كان يرأس دير cluny، الذي شهد أول ترجمة لاتينية للقرآن، وكان لبطرس هذا دور واضح فيها، له بعض المؤلفات منها كتاب في الرد على الإسلام، انظر موسوعة المستشرقين، د. عبدالرحمن البدوي ص68.

11- عرفان عبدالحميد (دكتور) التراث العربي الإسلامي والاستشراق الأدبي ص/

12- روجر بيكون (1214-1292م) إنجليزي، من طلائع المستشرقين، دراسته في اللاهوت، انضم إلى الرهبانية الفرنسيسكانية، وتعرض للرهبان ففصل من الرهبانية، وتعاطف معه الباب إكليمنس الرابع، ويعد من كبار الفلاسفة، ومن آثاره: موجز الدراسات اللاهوتية. المستشرقون- نجيب العقيقي 1/12-12.

13- عرفان عبدالحميد (دكتور) التراث العربي الإسلامي والاستشراق الأدبي ص/69.

14-  محمود حمدي زقزوق (دكتور) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ط(2) مؤسسة الرسالة -بيروت 1405هـ ص/19.

15- الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص72.

16- مناهج المستشرقين في الدارسات الإسلامية، 1/22، عن كتاب «المحمدية» ص20 طبع باريس 1897م.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك