الكتاتيب القرآنية في جزر القمر وأثرها في تكوين الهوية الوطنية
الباحث في هذا الموضوع كالباحث عن وفرة الماء والخضرة في وادٍ غير ذي زرع، وقد توخيتُ في هذا المقال بيانَ الدور المركزيّ للكتاتيب القرآنية في صناعة الشخصية وتكوين الهوية الوطنية للشعب القمري، من خلال مناهجها التعليمية والتربوية، وهو دورٌ يُراد له اليوم التجدد والانبعاث، آخذاً المتغيرات العلمية والتربوية في الحسبان، والرياح الهوج التي تهبّ عليها بعين اليقظان، برجاء أن تظلّ الكتاتيب القرآنية قائمةً مستمرة، ملتزمةً بدورها الأصيل، مستفيدةً من تجليات العصر وعطاءاته، متسلحةً بمعارفه وتقنياته، لكي يعيش أبناؤنا وبناتنا زمانهم وواقعهم.
- الكتاتيب: جمع كُتّاب، والكتّاب اسم لما يُتخذ مكاناً لتأديب الناشئة وتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة، وقد عرف العرب الكتاتيب في جاهليتهم، وعلا شأنها في عهد النبوّة والخلافة الراشدة، واتسع مداها مع اتساع رقعة ديار الإسلام، ولم تلبث أن صارت قبلةً لتلقي القرآن المجيد وحفظه، وتعليم أصول الدين وفروعه، إلى جانب رسالتها الأصلية، وتُعرف الكتاتيب في بعض الأقطار الإسلامية باسم: (الخلاوي القرآنية).
وقد ذكر لفيف من المؤرخين والباحثين أنّ الإسلام أشرق بنوره على ربوع جزر القمر في حدود عام 86 – 96هـ، حينما تنفّس صُبحُه على سواحل شرق إفريقيا وربوعها في تخوم الربع الأخير من القرن الأول الهجري: «ومن جملة الآثار التي دلّت على ذلك: الجوامع والمساجد التي بُنيت منذ (خمسمائة – سبعمائة) سنة، وقد وجدت هذه التواريخ في بعض جدرانها مكتوبة بالعربية»، والتحقيق على أنّ شمس الإسلام أشرقت في الأرخبيل نهاية الربع الأخير من القرن الأول وبداية الربع الأول من القرن الثاني من الهجرة.
أول كتّاب
وتشير روايات إلى أنّ أول كتّاب شهده الوطن القمري كان ببلدة: (نتساوين NSTAWEN، وهي بلدة ساحليةٌ معروفةٌ باتجاه شمال جزيرة القمر الكبرى، ويُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أنها كانت المحطة الأولى التي حطّت فيها قافلة الإسلام رحلها، ومنها انبثق نوره إلى أرجاء الأرخبيل سريعاً على يد الداعيَيْنِ الشهيرَيْن اللذين يُنسب إليهما حمل رسالة الإسلام إلى هذه الجزر، وهما: (إيتسوا موينزا) ورفيقه في الرحلة والدعوة: (في بيجا) (5).
بناء الكتاتيب وإدارتها
كانت الكتاتيب تُشيّد على شكل أكواخ، تضيق وتتّسع حسب عدد السكان وكثرة الفتيان والفتيات المترددين إليها، وكانت تُبنى من سعف النرجيل وأشجارها، في عملٍ جماعيّ تطوعيٍّ رائع من المجتمع المحلّي، شأنه في ذلك شأن بناء المساجد، في يومٍ مشهودٍ هو من أسعد أيام القرى القمرية، وأكثرها تجرّداً وتطوّعاً وحماساً دينيّاً.
سيد الكُتّاب
ولم يزل المعلّم هو سيد الكُتّاب ومديره، يعمل فيه صباح مساء متطوعاً محتسباً، وينهض المجتمع الأهلي بواجب الإِشراف العام والمراقبة المستمرة، ولم تكن للحكومات القمرية يدٌ ولا عونٌ يُذكر لها فيها، باستثناء فترة حكم الرفيق علي صالح متشيوا (1975م - 1978م)، وربما كان هذا الإهمال بحكم النظام العلماني المخادع الموروث من المستعمر، القاضي بأن ترفع الحكومة يديْها عن كلّ ما هو دينيّ؛ فالدّين في نظرهم شأنٌ شخصيٌّ وجهدٌ أهليٌّ لا شأن للدولة به حتى لو كان الشعب كله حنيفاً مسلماً، مع أنّ كثيراً من رجالات الدولة وساستها في الماضي كانوا من أبناء الكتاتيب وروّادها، يرسلون أبناءهم وبناتهم إليها، وربما دفعوا مكافئات مالية لمعلمي الدروس الخاصة في بيوتهم لتعليم أبنائهم وبناتهم القرآن الكريم ومبادئ العربية وأصول الدين وفروعه!.
ولربما كان رفع الحكومة يديْها عن المؤسسات الدينية (المساجد، والكتاتيب، والمدارس الإسلامية)، وتركها للمبادرات الفردية والأهلية، خياراً سليماً في المرحلة الماضية؛ فقد عزّز ذلك من صبغتها الدينية، وضمن لرجالها درجات عالية من الحرية والسموّ والتجرد.
المتغيرات السياسية والاجتماعية
لكن في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية والتربوية المتعلقة بالناشئة، وارتفاع حجم تحديات التعليم الموجّه فكريّاً وإيديولوجيّاً، فمن المفيد أن يبادر النظام السياسي إلى الاقتراب من الكتاتيب القرآنية تنظيماً وإشرافاً عليها، وقايةً لها من الانزلاق، وضماناً لديمومتها واستقلاليتها في أداء واجبها في التربية والتعليم، وإذا قررت الجمعيات الخيرية الإسلامية النهوض بواجب الإدارة والإشراف على الكتاتيب القرآنية فهي أحقّ بها وأهلها، بالتنسيق مع الجهات الرسمية المختصة ومع المجتمعات المحلية المهتمة.
العمل في الكتاتيب يورّث
كان العمل في الكتاتيب القرآنية يورّث كما يورّث الحقل والمزرعة، من جدّةٍ لأمٍ لبناتها، ومن جدٍّ لأبٍ لأبنائه، وربما انتقلت إدارة الكتّاب إلى أبرز التلاميذ النابهين، الذين أكثروا من خدمة الشيخ، وكانوا موضع ثقته وأمانته، ليمهّد لهم السبيل لخلافته على رأس الكُتّاب.
مكانة ممتازة للنساء
وقد ذكر الدكتور محمد ذاكر حسن السقاف أنّه كان من المظاهر الحضارية المحفوظة لإدارة الكتاتيب ونظامها: «أنّ النساء أصبحن يحتللنّ مكانة ممتازة في إدارتها وتشغيلها، بصفتهنّ معلمات للقرآن الكريم، والتربية الأولية للطفل، وفي تلقينه الأخلاق والمبادئ الإسلامية الفاضلة»، وهي سابقة حضارية حميدة تُسجّل للنظام التربويّ والثقافيّ للكتاتيب القرآنية، فقد تمتعت المرأة في ظلالها ليس فقط بحقّ التربية والتعليم كالرجل، ولكن نالت حقّ التوجيه والقيادة الإدارية للمؤسسة التعليمية والتربوية التي كانت معروفة في البلاد حتى تاريخه.
نظام التعليم في الكتاتيب
نظام التعليم في الكتاتيب القرآنية هو أول نظامٍ تعليميٍّ شهدته جزر القمر، وقامت مناهجها على تحقيق جملة أهداف، منها:
1 - تعليم القرآن الكريم قراءةً، وحفظاً لما تيسّر منه.
2 - دراسة أصول الدين وفروعه على مذهب الإمام الشافعي.
3 - تخريج القيادات الدينية والاجتماعية، من الأئمة والخطباء والوعاظ المصلحين، وأعيان المدن والقرى القادرين على تحمّل أعباء قيادة المجتمع دينيّاً واجتماعيّاً.
4 - تربية الهوية الوطنية والحضارية للمجتمع القمري وتنميتها عربيّاً وإسلاميّاً، والمحافظة عليها.
وقد أشار الدكتور مصطفي الزباخ إلى أنّ: «الكُتّاب في جزر القمر ظلّ عبر التاريخ أشبه بالرباط العقدي لأبناء المسلمين؛ حيث يتنافس القمريون في إقامة المدارس القرآنية حفاظاً على دينهم وعلى هويّة أطفالهم من موجات التغريب والتنصير المحدقة بهم، دون مساعدة خارجية أو مراقبة رسمية».
سدّ قويّ
ومن أجل ذلك ظلت الكتاتيب القرآنية سدّاً قويّاً في مواجهة الفكر العلمانيّ التغريبيّ في التربية والتعليم الذي تعمل المدارس الفرنسية على ترسيخه في المجتمع القمري، كما اجتهدت في تحقيق التوازن المنشود في بناء الشخصية القمرية المثقفة بثقافة مجتمعها، والقادرة على المشاركة والتأثير في حركة المجتمع وتطوّره.
النظام التربويّ
وقد ذكر الباحث القمري دمير بن علي أنّ النظام التربويّ في الكتاتيب القرآنية هو نظام متكامل- وليس نظاماً مكمِّلاً- لبناء شخصيةٍ سوية، قادرةٍ على المشاركة في كلّ مناحي الحياة بإيجابية وفعالية مشهودة، ومن العسير أن تتقبل الكتاتيب القرآنية التجاهل أو التجاوز، إذ لا تزال آثارها عميقة التأثير والتوجيه، وما تفتأ تمثّل الموئل الحاضن لإنشاء الشخصية القمرية السوية وتكوينها، فلا يقتصر دورها على تلقين التلاميذ جملة من المعلومات لينتقلوا بالنجاح فيها من سنةٍ إلى أخرى.. كشأن ما يقع في المدارس العلمانية الحديثة، التي صنعت من بعض مخرجاتها مشكلات تعيق تقدّم المجتمع ونهضته؛ أكثر منهم روافد لتطوّره وازدهاره.
الكتاتيب القرآنية المطوّرة
نشأت فكرة (الكتاتيب القرآنية المطورة) نتيجة من نتائج ورشة عمل- قيل إنها وطنية- عُقدت عام 1994م، وكان الغرض منها: محاولة الجمع والتوفيق بين الكُتّاب الأصيل والمدرسة النظامية الحديثة؛ بحيث يؤدي الكتّاب رسالة ثنائية تجمع بين النظامين: نظام الكتاتيب (تعليم القرآن الكريم، ومبادئ اللغة العربية، والتربية والتهذيب، وأصول الدين وفروعه)، من السنة الثالثة إلى الخامسة، ولمدة ثلاث سنوات، وتمهّد سبيل الطفل للالتحاق بالمدرسة النظامية الفرنسية بعد بلوغه السنة السادسة، دخل هذا النظام الجديد حيّز التنفيذ في القطاع الخاص عام 1998م، بدعمٍ ماليٍّ وتجهيزات معلنة من منظمة اليونيسف.
نتائج عكسية
أثار مشروع (الكتاتيب القرآنية المطورة)- ولا يزال- جدلاً واسعاً، بعد أن تبيّن للناس أنها تأتي بنتائج عكسية في مخرجاتها؛ فهي إنْ نجحتْ جزئيّاً في إعداد الناشئة للالتحاق بالمدرسة النظامية الفرنسية، فقد أخفقت كليّاً في تعليمهم القرآن العظيم ومبادئ القراءة والكتابة بالأحرف العربية، وتنمية الهوية الوطنية في نفوسهم، فهي -برأي الباحث التاريخي دمير بن علي-: «حلقة جديدة من الصراع القديم الجديد بين المدرسة القرآنية العربية، وبين المدرسة العلمانية الغربية»، في حين يرى معالي السيد محمد أحمد السّقاف -وزير الخارجية الأسبق، ورئيس جمعية وحدة الكتّاب القرآنية بجزر القمر-: «بأنّه من الخطأ المبين تقسيم الكتاتيب القرآنية إلى: قديمة جامدة وإلى حديثة مطوّرة، ما دامت رسالتها هي تعليم القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة العربية، وإنّ التّسمية المبتدعة تبعث انطباعات سيّئة من أول وهلة».
لقد أدرك الناس سريعاً بأنّ تدخل اليونيسف لتجديد الكتاتيب القرآنية وتطويرها هو من مواقع التهم، ويثير غير قليلٍ من دواعي القلق، ولاسيما بعد أنْ ظهر للناس أنّ مخرجاتها أقرب إلى الإفلاس منها إلى الإسعاف، سوى أنهم ضيّعوا أعزّ مرحلة في حياتهم لتعليم القرآن الكريم.
إنّ ما ينشده القمريون هو تطوير العمل في الكتاتيب القرآنية تطويراً ينبع من أصل الذات، من داخل قواعد الهوية الثقافية والحضارة الوطنية، وليست مشاريع تقتلعهم من جذورهم، أو برامج تربوية تهدم ولا تبني، وتفسد ولا تصلح، ومن أبرزها المدرسة الفرنسية.
لاتوجد تعليقات