رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. نور الدين محمد باشا 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

الكتاتيب القرآنية في جزر القمر وأثرها في تكوين الهوية الإسلامية


مثلت الدور المتخصصة في تحفيظ القرآن الكريم (الكتاتيب)، دورًا متميزًا في تكوين الخلفية القرآنية الإسلامية في عقول كثير من أبناء المجتمع في الدول الإسلامية لفترة من الزمان ليست بالقصيرة, وكانت تلك الكتاتيب قد انتشرت في كثير من ربوع دولة الإسلام ومن تلك الدول جزر القمر، وتتمثل أهم مكونات الهوية الإسلامية القمرية، التي تتكون في كنف الكتاتيب القرآنية في أمور عدة نعرضها في هذا المقال.

زرع الانتماء

أ - زرع معنى الانتماء إلى الأمة: من الكتاتيب نشأت وتكونت عناصر الهوية الإسلامية المميزة للشعب القمري؛ حيث تعمل برامج الكتاتيب القرآنية على ترسيخ الشعور بالتمازج بين الناشئة وبين الأرض (الوطن) والانتماء الحنون إليه من خلال التعاطي المبكر مع مخرجات الأرض (الوطن)، فالكتاتيب تُبنى وتفرش من أشجار النرجيل التي تزخر بها الأرض القمرية، ومثلُها اللوحة والمحبرة فهما صناعة تقليدية مما تنبت أرض الوطن؛ فجميع مستلزمات الكتاتيب القرآنية تنبع من بيئة الأرض (الوطن)، وهو ما يزرع الشعور العميق بالانتماء، مشفوعاً بالاستجابة للحاجات الفطرية.

صفة عربية فطرية

     ويرى د. مصطفي الزباخ أنّ ظاهرة الشعور بالانتماء لدى المواطن القمري صفة عربية فطرية متأصلة في المجتمع القمري بنوعيه: (العقدي، والاجتماعي)، ففي الأول: «يعدّ الشعور بالانتماء إلى عقيدة إسلامية واحدة من أكبر العوامل في تماسك المجتمع القمري، وتعاونه ضدّ كلّ خطر يمثّلُ في وعيه الجماعيّ تهديداً لشخصيّته وقيمه، من هنا كان الكُتّاب نوعا من أنواع المقاومة الشعبية السّلمّية ضد تيار التغريب والتبشير المسيحيّ.

تعلّم اللغة العربية

ب - تعلّم اللغة العربية وإتقان اللغة القمرية: تعدّ اللغة أحد أهمّ مرتكزات الهوّية الثقافية والحضارية للأمم والشعوب، وأقواها تأثيراً وحشداً لأفرادها، فهي تتجاوز بالمتحدثين بها الحدود الجغرافية والسياسية، وتخترق آفاق الحسّ والوجدان، وهي أوسع مقومات الهوية فسحةً وسعة؛ فاللغة مثلها مثل العلم والثقافة: رَحِمٌ واصلٌ بين أهله.

منهج مزدوج

     اعتمدت الكتاتيب القرآنية بجزر القمر منهجاً مزدوجاً في صناعة الهوية اللغوية للشعب القمري وتكوينها، حافظت به على حيوية اللغة القمرية ووحدتها في الجزر القمرية كلّها، من خلال التدريس بها، وتعويد الناشئة عليها، تحمّلاً وأداءً، في الدروس الدينية اليومية، عبر منهج ترجمة العلوم الدينية من العربية إلى القمرية، ترجمةً قائمةً على التلقين مشافهةً تحمّلا وأداءً، كما أسهم منهج الترجمة للمختصرات والمطولات الفقهية والمتون في إغناء اللغة القمرية بالمعاني العلمية والدينية والأدبية، وإثرائها بالمفردات والتعبيرات العربية التي دخلت القاموس القمري وصارت أصيلة فيها، كما بعث العديد من المعاني والألفاظ القمرية من مرقدها، ونفخ فيها روحاً جديدة تعيش بها بين الناس؛ فقد كان الشيخ يجدّ ويجتهد في البحث عن الكلمة الأكثر دقة وعن العبارة القمرية الأقرب إلى المعنى في العربية، ويقوم الدارس بحفظ تلك الترجمة الغنية، ويستوعب تلك الألفاظ المنتقاة بدقّةٍ وعناية، ويؤديها كما سمعها في الجلسة التعليمية التالية بأمانة تامّة؛ مما يتيح للدارس امتلاك ثروة لغوية شاملة، وحِفْظ تراكيب قويّة الدلالة في اللغتين، أما إذا أخفق الدارس في أداء درسه مترجماً من العربية إلى القمرية؛ فجزاؤه الحرمان من تلقي درسٍ جديدٍ في يومه.

     وهكذا أصبح شيوخ الكتاتيب القرآنية وأبناؤها مراجعَ مهمّة، وخطباء مفوهين، باللغة القمرية، وصاروا أقدر الناس على التفكّر والتفكير وحسن التعبير بها؛ مما أهّلهم ليكونوا الأكثر تمكّناً وتمكيناً في تمثيل الهوّية اللغوية للوطن، والأكثر أخذاً بناصية ثقافته الدينية والاجتماعية.

حظوظ الدارسين

    أمّا حظوظ الدارسين في الكتاتيب من العربية الشريفة فهم من أكثر الناس فقهاً بها ألفاظاً ودلالات، سوى أنّ التحدث بها تعتريه صعوبات جمّة، بالنظر إلى أنّ أسلوب الترجمة الحرفية من لغة إلى أخرى، وإنْ كان معيناً على حفظٍ واسعٍ لمتن اللغة ودلالات مفرداتها فإنه عائق في انطلاقة اللسان بالحديث؛ لأنّ المنهج منهجُ ترجمةٍ لا منهجَ تعليم لّلغة العربية، ومن أجل ذلك تجد جلّ القمريين متفاعلين مع اللغة العربية إلى حدّ بعيد، ولكّن ألسنتهم محبوسة عن ممارسة الحديث بها، وأشير هنا إلى أنّ العدوى ربما انتقلت من الكتاتيب القرآنية إلى المدارس النظامية؛ حيث يدرس فيها الطالب اللغة الشريفة بواقع (2-4) ساعات أسبوعيّاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية، أي سبع سنوات كاملة، دون أن يكون الطالب قادراً على الأخذ والعطاء باللغة العربية في أبسط مسائل الحياة، في حين نجدهم ينطلقون بالحديث باللغة الإنجليزية بعد دراستها مدة (3-6) أشهر، وهو أمر يدعونا إلى مزيد من التأمّل في أسباب تلك الظاهرة، ونتائجها السالبة على حاضر العربية ومستقبلها في البلاد؛ ابتغاء معالجتها وتجاوزها، ولاسيما حينما نعلم أنّ جذور اللغة العربية كامنة في النفوس، تجري في القمريين مجرى الدم في العروق؛ فهي لغة الآباء والأجداد، ولغة الدين والقرآن، ولغة الإدارة والديوان، في هذه الديار، منذ سالف الأزمان (25)، وعليه؛ فإنّ أي مشروعٍ جادٍّ لإعادة إطلاق لسان العربية وتوطينها هو مشروع ناجح بالطبيعة والسليقة، ولكنه معاق بالسياسة وسوء الطوية (26)، ودليلي على ذلك أنّ المدارس الأهلية والخاصة التي تطبق نظام التعليم الثنائي نجحت نجاحاً مشهوداً في اقتحام هذه العقبة، وبذلك تظل تلك المدارس والكتاتيب القرآنية الأهلية هي الملاذات الآمنة للغة الشريفة والتربية الإسلامية القويمة، في الأرخبيل حتى إشعار آخر، كما أنّ الاشتغال بإصلاحها وتطويرها يظل استثماراً مؤكداً، وميداناً فسيحاً لإعادة بعث الدور المنشود للكتاتيب القرآنية في صناعة الشخصية وبناء الهوية الإسلامية.

تعليم العقيدة

ج - تعليم العقيدة ومبادئ الشريعة: تعد العقيدة الدينية لدى الشعوب واحداً من أهم دعائم هويتها الوطنيّة الجامعة، وفي جزر القمر تنهض الكتاتيب القرآنية، بجانب الحلقات التعليمية في المساجد بهذا الواجب الشرعي والوطنيّ المقدس، في تعليم الناشئة العقيدة الإسلامية ومبادئ الدين على منهج أهل السنّة والجماعة، نهوضاً حصريّاً، إلى عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات، حين انضمت إليها المدارس الإسلامية الحديثة ذات التعليم المزدوج، ثم افتتاح كلية الإمام الشافعي عام 2003م للغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة جزر القمر.

توحيد توجه المجتمع

     ظلت تلك المهمة حكراً على الكتاتيب أحقاباً ودهوراً، حيث يتعلم الناشئة أركان الإسلام والإيمان، والطهارات والنجاسات، وأنواع العبادات التي كتبها الله على المؤمنين، دون التطرق للخلافات، ويتخرج التلميذ أو التلميذة منها وقد ألمّ واستوعب ما لا يُعذر المسلم بجهله، محصناً من التيارات والمذاهب الهدامة، على نحوٍ يوحّد توجّه المجتمع وأنماط التدين فيه، بما لا يأذن بنشوء نتوءات فكرية أو عقدية ضارة بوحدة المجتمع وانسيابيته في تعظيم شعائر الدين وإعلاء قيمة الحياة والأحياء.

نقطة الارتكاز

     وقد مثّلت التعاليم الإسلامية واللغة العربية في رحاب الكتاتيب والحلقات التعليمية نقطة الارتكاز في تكوين الهوية الوطنيّة الجامعة، وعاملاً داعماً للوئام الأهلي والسلم المدني، وسنداً لمنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية (27)، التي تصبّ في نهر الأخوة الإسلامية، التي صهرت السلالات البشرية المكونة لأصول الشعب القمري في بوتقتها، ليغدو الشعبُ القمري كلّه أجمع خليّةً اجتماعيةً متآلفة في قيمه وأهدافه ومُثله العليا، تحت دوحة (الهوية الإسلامية القمرية)، سوى أنّ: «العنصر العربي الإسلامي كان أقوى تأثيراً في نواحي الحياة العامة للمجتمع القمري؛ باعتباره النموذج الذي توحّد في ظلاله آمالهم الدينية والحضارية».

القيم المجتمعية

د - التنشئة على منظومة القيم المجتمعية: من أظهر جوانب التربية الأخلاقية والمجتمعية، التي تُعنى بها الكتاتيب القرآنية، تربية الناشئة على تقديس المقدَّس وتعظيم المُعظَّم من الشرع الحكيم أو من العقل السليم؛ ففي الكتاتيب القرآنية القمرية التزامٌ صارمٌ بحرمة مسّ المصحف الشريف إلا للمتطّهرين، حتى إنّ البنات يتغيبن عنها أيام الطمث، وحرمة وضع شيء فوق المصحف الشريف؛ ففي قرارة نفوسهم إيمانٌ راسخ بأنّ القرآن يعلو ولا يُعلى عليه، وإذا حصل أن وقع المصحف أو شيء منه على الأرض بادر الجميع متسابقين إلى رفعه، وضمّه إلى صدورهم إعلاناً للاستغفار وإعراباً عن بالغ الأسف مما بدر منهم أو بحضرتهم؛ تعظيماً لشأن القرآن العظيم.

خدمة معيشة

     يتوجّه الناشئة صباح كلّ خميس لتقديم خدمة معيشية لشيخهم المتطوع أصلاً في عمله، ويمكن النظر إليه بكونه أسلوباً للتدريب على ربط الناشئة بالعمل والكسب، وتعويدهم على الجدّ والسعي في طلب الرزق، وهو في الوقت نفسه ترسيخ لمبدأ توقير العلم وأهله، وتقديم الشكر إلى من أسدى إليهم المعروف.

حبّ الوالدين والإحسان إليهما

     ويتلقى التلاميذ دروساً عملية في حبّ الوالدين والإحسان إليهما وتعظيم شأنهما، وفي إكرام الضيف، وتوقير الكبير ورحمة الصغير، كما تُعقد لهم دروسٌ خاصة في اتباع السنن النبوية، والاقتداء بسير أعلام النبلاء من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- أجمعين.

منظومة قيمية نبيلة

     كلّ هذه الممارسات تعمل على صياغة منظومة قيمية نبيلة جامعة لشمل المجتمع، تصبّ في تربية الناشئة على أنّ في الحياة أشياء نجلّها ونقدرها، وشخصيات نحترمها ونصونها، وأن فيها سلوكيات وأخلاقاً ندينها ونشجبها، بل نحرّمها بحكم الشارع الحكيم، أو نستنكرها ونرفضها بمنطق العقل السليم، وقد ظلّت تلك التربية النابعة من الكتاتيب صمام أمن المجتمع وأمانه، ومفتاحاً للوئام الأهلي، تُرسّخ قيم الخير والصلاح، وتُوطِّد بعمق مكونات الهوية الثقافية والاجتماعية للشعب القمري.

جوانب نجاح الكُتّاب

     ويشير الدكتور مصطفى الزباخ إلى جوانب نجاح الكُتّاب في تكوين مكونات الهوية، والاحتياجات المعيقة لتقدمها، فيقول: «إذا كانت الكتاتيب قد أسهمت بقسطٍ كبيرٍ في صيانة الهوية الإسلامية للمجتمع القمري التقليدي عبر التاريخ فالمطلوب منها التأهب للعصرنة تطويراً وتحديثاً.. وهنا نطالب الخيّرين والموسرين، من المحسنين البررة، إلى الأخذ بزمام المبادرة وحسن الاستجابة إلى متطلباتها الآنية المتمثلة في:

1 - حاجتها إلى برامج ومناهج هادفة، وكتبٍ مدرسيةٍ ملائمة، بجانب المنهاج الرسميّ الحكومي.

2 - حاجتها إلى تكوينٍ تربويٍّ لائق للمدرسين والمفتشين فيها.

3 - حاجتها إلى مراقبةٍ تربويةٍ موجّهة وضابطة للعملية التعليمية بها.

4 - حاجتها إلى وسائل التدريس الأساسية: كتب، سبورات، مصاحف، مقاعد، بُسط، ثم الوسائل الحديثة المتمثلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتوفير أجهزة الحاسب الآلي».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك