رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 14 نوفمبر، 2022 0 تعليق

القيادة اليوسفية والمنظومة القيمية -2 يوسف بين أبيه يعقوب وإخوته

قصة يوسف -عليه السلام- قصةٌ تعلمنا كيف يكون الصبر والثبات والتمكين في الأرض، قصة تعلمنا كيف تنهار القوة الأرضية أمام القوة السماوية الربانية، وكيف تسقط المخططات والمؤامرات أمام {معاذ الله} (يوسف:٢٣)، وكيف تصبح زنزانة السجن قاعة لإدارة الأزمات وتفريج الكربات، قصة يوسف -عليه السلام- قصة قائد فذ، توشح بالقيم الربانية ليخوض المعركة التي ينقذ بها الأمة، قصة قائد بمنظومة قيمية ربانية ينقذ مصر وما جاورها اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وأخلاقيا وسياسيا، لذلك كانت هذه السلسلة، وهي بعنوان: (القيادة اليوسفية والمنظومة القيمية).

     عاش يوسف -عليه السلام- الغلام القائد في كنف أبيه، وكان يحمل الصفات العظيمة التي تؤهله لقيادة الأمة في المستقبل، وقد انتبه أبوه يعقوب -عليه السلام- لتلك الصفات التي يحملها ابنه القائد الصغير يوسف -عليه السلام-، وهذه فراسة في يعقوب -عليه السلام-؛ حيث اكتشف المؤهلات التي يحملها ابنه يوسف مبكرًا، فتعلق قلب يعقوب بيوسف من غير أن يدرك أنه أشغل بذلك فكر إخوة يوسف الباقين وعقولهم، فكان إخوة يوسف يرون الاهتمام والمحبة من قِبل أبيهم تجاه يوسف وأخيه الصغير؛ مما جعلهم يصوبون تفكيرهم في الاتجاه الخطأ كما بينه أهل العلم في ذلك.

تفصيل المشاهد

     لقد كان ليوسف وأخيه إخوة غير أشقاء، وهم أحد عشر أخًا كما حكى ذلك القرآن الكريم، وسيبين لنا القرآن المرحلة الأولى والصدام الذي وقع بين يوسف وإخوته وأسبابه، ومن هنا نبدأ في تفصيل المشاهد والمعالم القيادية والمنظومة القيمية في هذه المرحلة، وهو المشهد الأول لقصة يوسف القائد -عليه السلام-، {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} إلى قوله -تعالى-: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} {يوسف:4-18).

يوسف وأبوه يعقوب  والرؤيا العظيمة

من الصفات القيادية التي يحملها يوسف القائد -عليه السلام-:

(1) المبادرة

     {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: 4)، فقد بادر يوسف -عليه السلام- إلى أبيه ليحكي له ما رأى من مشاهد عظيمة لا يعرف معانيها، ولم يخف ذلك في نفسه حياء أو خوفا أو عدم اهتمام بل كان مبادرا؛ لذلك تأثر یوسف -عليه السلام- بهذه الرؤيا، ولما أصبح قصها على أبيه، وانتظر ليسمع من أبيه تعبيرها وتأويلها.

(2) بناء الثقة والألفة

     بني يعقوب -عليه السلام- بينه وبين ابنه نبي الله يوسف القائد -عليه السلام- ألفة ومحبة وثقة، وهي التي جعلت يوسف يبادر ويحكي لأبيه ما رأى من رؤيا عظيمة، وهكذا يحتاج القائد أن يبني بينه وبين التابعين جسور التواصل والألفة والمحبة والثقة.

(3) التوجيه الفعال

      {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ..} (يوسف:5)، نجدها لغة جميلة بين الأب وابنه، لغة التعليم والتدريب المستمر بالمحبة والمصاحبة «يا أبت، يا بني». تعليم وتدريب ومحبة وألفة كان فيها نصح وتوجيه وإرشاد، وهذا ما جعل إخوة يوسف يكون لهم أمر آخر في هذه المسألة.

     ويوجه القائد نبي الله يعقوب -عليه السلام- ابنه القائد الغلام يوسف -عليه السلام- هذا التوجيه الذي يصب في مصلحته، وقد لا يدركه يوسف في هذا المقام، ولا يعلم لماذا لا يقصص رؤياه على إخوته وما السبب؟! علامات استفهام وتعجب تدور في عقل الغلام يوسف -عليه السلام- ومن ثم لماذا إخوته يكيدون له لو أخبرهم؟

(4) الحرص وكتمان السر

     {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ..}، كتمان الأسرار وبعض النعم وإقامة المشاريع في بدايتها مطلوب في بعض الأحيان؛ لكي يسلم الإنسان من إعلان الحرب عليه من الحساد أو الخصوم الذين يضمرون له شرا.

     يقول عبد الله بن بلقاسم حول قوله -تعالى-: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ..}: في النفوس البشرية مقاومة شرسة للمتفوقين، لا تظهر تفوقك إلا عندما تكون مضطرا»، فالقائد الحاذق يعرف متى وأين يعلن عن مشاريعه أو ما يود الإعلان عنه أو أن يكتمه حتى حين، «استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر بالكتمان»

      وكما جاء ذلك في هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعندما أخبر أبا بكر قال له اكتم الخبر، وذلك لكي لا يسرب الخبر إلى قريش، وذلك لكي لا تتعرض مصالح القائد للخطر ولا مصالح الآخرين.

(5) غرس قيمة حسن الظن

     (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يوسف: 5)، القائد نبي الله يعقوب -عليه السلام- يغرس قيمة حسن الظن في ابنه يوسف قائد المستقبل، أخبره أنه قد يكيد لك إخوتك، ولكن ذلك بسبب العدو الحقيقي الشيطان، وليس إخوتك هم الأعداء، بل هو الذي وسوس لهم بالكيد لك، فيعلم ابنه هذه القيمة حتى إذا حدث ما حدث يكون صاحب قيمة العفو والصفح.

(6) العلم بالبيئة المحيطة بك

      كان نبي الله يعقوب القائد -عليه السلام- يعلم أن يوسف سيكون له شأن، ويعلم أن إخوته يغارون منه ويحسدونه ويحقدون عليه على ما يحمل من ذكاء وتميز وفطنة، جعلت يعقوب يحبه ويهتم به؛ لذلك علم يعقوب أنه إذا وصلت الرؤيا لإخوة يوسف سيكيدون له؛ فلم يكن يعقوب جاهلا عما يدور حوله، لذلك كان إخوة يوسف نموذجا بشريا للكيد والحقد والمكر والتآمر والحسد، وسوء الظن، وضلال الحكم والكذب والافتراء.

(7) استشراف المستقبل والتفاؤل

      {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } (يوسف:6)، يعقوب -عليه السلام- يغرس في نفس ابنه الذي سيتعرض للكيد روح التفاؤل والصورة المشرقة، ويستشرف له المستقبل والصورة الجميلة القادمة، وأن الله سيحفظه ويحميه، وسيخصه بالعلم والفضل والمكانة العالية، وهذه كلها من صفات القادة، وهنا قائد يربي قائدا.

(8) غرس القيم وتعلم القيادة من خلال القدوات

     {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {يوسف:6)، فليكن أبواك نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- وكذلك نبي الله إسحاق قدوتك يا يوسف؛ فهم خير القدوات.

      {إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النحل:120-121). فكان نبي الله يعقوب يغرس القدوة الصالحة في قلب ابنه القائد الصغير يوسف -عليه السلام- ليكن قدوته في العلم والفضل والقيم والقيادة، وسيأتي لاحقا هل استفاد يوسف من توجيه والده يعقوب له؟ وهل اقتدى بهذه القدوات؟ ويوجه الأب القائد يعقوب لابنه القائد الصغير يوسف آخر رسالة: {إن ربك عليم حكيم} (يوسف:6).

      وكأنه يقول له لا تحزن يا بني؛ فالله معك عليم بكل شيء، بصير بما في السماوات والأرض، لا تحزن يا بني فلن يضيعك الله؛ فالله أعلم وأحكم بما سيكون لك من أمور هو أعلم بها لا نعلمها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك