رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 13 نوفمبر، 2017 0 تعليق

القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية – القرعة مسألة عظيمة من مسائل الفقه

القُرعة مسألةٌ عظيمةٌ من مسائل الفقه، وبابٌ واسعٌ من أبواب الأحكام الشرعيّة، ولها في الإسلام تطبيقات عدة.

- القرعة: في اللغة هي السّهم والنّصيب، وفي الاصطلاح استهامٌ يتعيّن به نصيبُ الإنسان، أو هي فعلُ ما يعيِّن حظَّ كلِّ شريكٍ ممّا بينَهُم، بما يمتنع علمُه حين فِعْلِه. والقُرعة سُنَّةٌ ماضيةٌ في توجيه الحقِّ الذي يستوي في استحقاقه أكثر من طرف، كمن حلف ليتصدّقنّ على ابن عمّه المسكين بدينار، وكان له أبناء عمٍّ مساكين، ولم يعيِّن واحداً منهم عند الحلف لا في لفظه ولا في نيّته، فإنَّه يُعيِّن مستحقّ ذلك الدِّينار بالقُرعة، ومثلُ ذلك ما لا يُحصى من الصّور.

من أدلّة القاعدة

     قال -تعالى-: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44)، وقال -تعالى-: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} (الصافات: 139-149).

      قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس ما في النِّداء والصَّفِّ الأوّل، ثمّ لم يجدوا إلا أن يسْتَهِمُوا عليه لاستَهَمُوا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأَتَوْهما ولو حبْوًا».

     قال ابن الملقّن: «قال أبو عبيد: عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: نبيُّنا، ويونس، وزكرياء، صلوات الله وسلامه عليهم، قال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع». ولوضوح الدّليل على القرعة، وشُيوع العمل بها، قال الإمام الشافعيُّ: «ناظرتُ بِشْراً المرِّيسِيَّ في القُرْعة، قال: هي قمارٌ! فذكرتُ ذلك لأبي البَخْتَرِيِّ القاضي، فقال: آخرُ معك حتى أضرب عنقه! قلت: إنِّي لم أُرِدْ هذا».

مواضع استعمال القرعة ومجالاتها

      قال القرافي: «اعلم أنّه متى تعيَّنَتْ المصلحة أو الحقُّ في جهةٍ لا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأنّ في القرعة ضياعُ ذلك الحقّ المتعيِّن أو المصلحة المتعيِّنة، ومتى تساوت الحقوق أو المصالح، فهذا هو موضع القرعة عند التنازُع، دفعًا للضغائن والأحقاد، والرضا بما جرت به الأقدار، وقضى به الملك الجبار. فهي مشروعة بين الخلفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية، والأئمة والمؤذنين إذا استوَوْا، والتقدم للصف الأول عند الازدحام، وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم في الطبقات، وبين الحاضنات، والزوجات في السفر والقسمة، والخصوم عند الحكّام، وفي عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم أو بثلثهم في المرض، ثم مات، ولم يَحْمِلْهُم الثلث، عُتق مبلغ الثلث منهم بالقرعة». فالقُرعة إذاً تكون بعد استقرار الحقّ، وبعد تساوي مستحقِّيه فيه من كلِّ وجهٍ، فيما لا يقبل القسمة من الحقوق والأحكام، أو فيما تُمكن قسمتُه حسًّا، لكن قسمته على خلاف المصلحة الشرعيّة. وهذا ما نصّ عليه ابن رجب، فقال: «تُستعمَل القرعة في تمييز المستحِقِّ إذا ثبت الاستحقاقُ ابتداءً لمُبْهَمٍ غيرِ معيَّن عند تساوي أهل الاستحقاق، ويستعمل أيضاً في تمييزِ المستَحِقِّ المعيَّن في نفس الأمرِ عند اشتباهه والعجز عن الاطلاع عليه».

الحكمة من تشريعها

     قال ابن القيّم -رحمه الله-: «... فإنّ تعيينَ المُكلَّف تابعٌ لاختياره وإرادته، وتعيينُ القرعة إلى الله -عز وجلّ-، والعبد يفعل القرعة وهو ينتظر ما يعيِّنه له القضاء والقدر، شاء أم أبى. وهذا هو سرُّ المسألةِ وفقهُها، فإنّ التعيين إذا لم يكن لنا سبيلٌ إليه بالشرع، فُوِّضَ إلى القضاء والقدر، وصار الحكم به شرعيًّا قدريًّا، شرعيًّا في فعل القرعة، وقدريًّا فيما تخرُج به، وذلك إلى الله، لا إلى المكلَّف، فلا أحسن من هذا ولا أبلغ في موافقةِ شرعِ الله وقَدَرِه».

من تطبيقات القاعدة

- إذا شحّت المبالغ الماليّة المتوفّرة في رصيد المؤسّسة الخيريّة، وكانت لا تفي باحتياجات الفقراء المسجّلين لديها، فإنّها تقدِّم الأحوج فالأحوج، فإذا استوى الباقُون، وكان المال الباقي لا يكفي إلّا لبعضهم، فإنّ مستحقَّه يُعيَّن بالقُرعة.

- إذا أعلنت المؤسسة الخيريّة عن مشروعٍ، وطرحته على المتبرِّعين، فوصل إليها اثنان أو أكثر في وقت واحدٍ، أو وصلَ لحسابِ الجمعيّة تبرُّعان في وقتٍ واحدٍ للمشروع نفسه، فإنّ الذي يُقبل تبرُّعُه يُعيَّن بالقُرعة.

- إذا تقدَّم اثنان من الموظّفين لطلب إجازة، وكانت حقوقهما الوظيفية في الحصول عليها متساوية، فلا بأس -إبراءً للذِّمَّة، ودفعًا للتُّهمة عن المسؤول- أن يُحدَّد الموظّف الذي سيُعطاها بالقُرعة.

- إذا تقدَّم إلى المؤسّسة الخيريّة أكثر من شابٍّ من غير المقتدرين لطلب مساعدةٍ على الزواج مثلاً، فأرادَ مُحسنٌ أن يزوِّجَ واحدًا، لا أن يدفع مبالغ مجزَّئةً تُقسَّم عليهم، فله أن يختار بإرادته، فإن وكَّلَ المؤسسة بالاختيار، ووجَدَتْهُم متساوين، فالمُستحقُّ يتحدَّدُ بالقُرعة.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك