القواعد المرعية في السياسة الشرعية (2) قاعـدة اعتبار المـآلاتر
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه عن القواعد الأصولية والفقهية المهمة التي تدور عليها أحكام السياسة الشرعية، التي ذكرنا منها قاعدة اعتبار القدرة والعجز، قاعدة تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، قاعدة ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما، قاعدة اعتبار المآلات، وذكرنا بعض الأمثلة على قاعدة اعتبار المآلات واليوم مع مثال آخر وهو صلح الحديبية.
فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه ألف وأربعمائة مقاتل بايعوه على الموت، وكان يمكنه أن يجتاح مكة بهم ويدخل الحرم إلا أنه كانت هناك اعتبارات كثيرة من أجلها لم يقدم على هذا، ووافق على صلح ظنه الفاروق عمر من باب إعطاء الدنية في ديننا، وكان من هذه الاعتباًرات:
1) اعتبار تعظيم حرمات الله؛ ففي قصة الغزوة أن الجيش حين بلغ الحديبية بركت الناقة و لم تتحرك؛ فقال بعض الصحابة خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما خلأت القصواء، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت به.
2) اعتبار وجود بعض من يخفي إسلامه من المستضعفين في مكة، ولعل بعضهم يقتل بسيوف المسلمين وهم لا يعلمون قال -عز وجل-: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهذا من أرقى وأعلى درجات تعظيم أمر الدماء.
3) اعتبار أمر يعظمه العرب وهو استهجان أن يجتاح رجل قومه ويستأصلهم؛ ولذلك قال عروة بن مسعود -وهو أحد مبعوثي قريش للمفاوضات- للنبي صلى الله عليه وسلم : «أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك».
4) اعتبار الحفاظ على حياة من معه ليواصل بهم الدعوة إلى الله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للخزاعي: «فإن شاؤوا ماددتهم مدّة، ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر عليهم فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا».
5) اعتبار تأمين جبهة شرسة وهي جبهة قريش التي تعد رأس الحربة على الإسلام؛ فتأمينها -ولو لفترة- يعطي الفرصة للانطلاق في الدعوة إلى الإسلام أنحاء الجزيرة العربية جميعها، ويوفر مناخاً يمكن للعرب فيه أن يستمعوا إلى صوت العقل والحكمة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للخزاعي ما تقدم، كل هذه الاعتبارات جعلت الصلح الذي يحافظ عليها فتحاً مبينا مع أنه أحاط به من الأمور التي قال عمر الفاروق رضي الله عنه بسببها: «ألسنا على الحق؟ فلم نعط الدنية في ديننا».
مواقف من صلح الحديبية
اعتراض سهيل بن عمرو على كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم.. محمد رسول الله) وإصراره على محوها من الصحيفة فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
بنود الصلح
بنود الصلح نفسها كان وقع بعضها صعبا على المسلمين الأول: رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من عامه وعدم دخول مكة، وإذا كان العام القادم جاؤوا فاعتمروا، وفي رجوعهم وعدم عمرتهم وهم محرمون، وقد ساقوا الهدى، ووصلوا مشارف مكة ألم شديد على نفوسهم.
- الثاني: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس وهذا البند من الفتح المبين الثالث: من أحب أن يدخل في عقد مع محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد مع قريش وعهدهم دخل فيه وهذا فيه من المصلحة لدولة الاسلام ما فيه. الرابع: من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه رده إليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرد إليه.
وكان هذا من أصعب ما يكون على المسلمين ولاسيما وقد حدث أثره فورا: «فبينما هم كذلك؛ إذ جاء أبو جندل بن سهيل، وقد خرج من أسفل مكة يرسف-يمشي مقيداً- في قيوده، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد! أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى، فافعل، قال: ما أنا بفاعل. قال أبو جندل: يا معشر المسلمين! كيف أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ -وكان قد عذب في الله عذاباً شديدا، وهكذا رد المسلمون أبا جندل إلى المشركين مع غلبة الظن أنهم سيعذبونه أو يقتلونه أو يردونه عن دينه بل إن الامر تكرر مع أبي بصير بعد العودة إلى المدينة؛ فبعد أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءه أبو بصير -وهو رجل من قريش- مسلماً، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي بيننا وبينك، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة. فغافل أبو بصير أحدهم وقتله ورجع إلى المدينة، فقال: يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر».
بلاشك فإن في هذا ألماً شديداً على نفوس المسلمين لكن المصالح المترتبة على الصلح حقا فتح مبين، ثم إن الله جعل لأبي بصير وأبي جندل وأمثالهما مخرجا؛ فقد تفلت أبو جندل من المشركين، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق به، حتى اجتمعت منهم عصابة؛ فما سمعوا بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقاتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن من أتاه منهم فهو آمن.
أمثلة من التراث الفقهي والأصولي على هذه القاعدة
أولاً: قول جماهير أهل العلم في الانسحاب والفرار عند عدم تكافؤ الكفتين في القتال:-
ذهب الجمهور من أهل المذاهب الأربعة إلى أنه إذا كان الأعداء أكثر من ضعف المسلمين جاز الفرار ولم يكن محرماً قال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفين بإذن الله والله مع الصابرين}
قال ابن قدامه -رحمه الله-: «إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات، وحرم الفرار، بدليل قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} الآية. وقال -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} وذكر النبيصلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف، فعده من الكبائر .
وإنما يجب الثبات بشرطين:
- أحدهما: ألا يزيد الكفار على ضعف المسلمين؛ فإن زادوا عليه جاز الفرار، لقول الله -تعالى-: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين}. وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر، فهو أمر، قال ابن عباس: نزلت: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء تخفيف فقال: {الآن خفف الله عنكم}إلى قوله: {يغلبوا مائتين} فلما خفف الله عنهم من العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد. رواه أبو داود، وقال ابن عباس: «من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر ».
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز للعدد الكثير أن يفر من القليل إذا لم تتكافأ العدة وآلة الحرب، ويظهر أثر هذا القول في العصر الحديث؛ حيث تطورت آلة الحرب؛ فلو أن عشرة عزلا مقابل واحد فقط يقود دبابة ومتحصن بها فإن للعشرة أن يفروا لعجزهم عن مواجهته.
أحكام قتال الإمام
- ثانيا: كلام نفيس لأهل العلم يتعلق بأحكام قتال الإمام خليفة المسلمين للخارجين عليه والبغاة في حالة عدم قدرته ومن معه:- فمن ذلك ما ذكر شيخ الإسلام في حكم قتال الطائفة الباغية من أن قتالهم منوط بالقدرة والإمكان؛ فإن كان عاجزا عن ردعهم لم يقاتلهم بل يصانعهم ويسايسهم؛ فإن ظن الإمام أنه قادر على مواجهتهم فدخل فى ذلك ورأى بعض الرعية أن مفسدة هذا القتال أرجح كان هذا القتال بالنسبة لهم قتال فتنة لا طاعة للإمام عليهم فيه.
مشروط بالقدرة والإمكان
قال شيخ الإسلام: «الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان؛ فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانا هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في الأمر نفسه أصلح.
ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته علم أنه قتال فتنة فلا تجب طاعة الإمام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب فيمالم يعلم المأمور أنه معصية بالنص؛ فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة - الذي تركه خير من فعله - لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولي الأمر انتهى حتى لو سقطت الإمامة في هذه الحالة من الإمام.
يقول الجويني -رحمه الله- فيمن خرج عن طاعة الإمام: «وإن علم أنهم لكثرتهم وعظم شوكتهم لا يطاقون؛ فالقول فيهم كالقول في الباغي إذا استفحل شأنه، وتمادى زمانه، وغلب على ظن الإمام أنه لو صادمه ودافعه بمن معه لاصطلم الباغي أتباعه وأشياعه أي: استأصلهم، ولم يستفد بلقائه إلا فرط عنائه واستئصاله أولياءه؛ فالوجه أن يداري ويستنفد جهده، فإن سقطت منه الإمامة بالكلية فهذا إمام سقطت طاعته» انتهى.ش
لاتوجد تعليقات