اعداد: عيسى القدومي
21 أكتوبر، 2024
0 تعليق
القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري
- الإتيانُ بالعملِ وإيقاعُه طلبًا في الأجر والثواب وابتغاء مرضاةِ الله لا يتعارض ولا يكون مانعًا من أن يترتّب على ذلك العمل كسبٌ ورزقٌ للعامل
- إنّ كلّ تصرُّف محرّمٍ استُبيح بالضّرورة إنّما يجوز بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة ورفعها ولا تجوز الزيادة عن هذا الحدّ
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن مع ذلك سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الصور المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري.
والحديث هنا خاصٌّ بالقواعد التي تندفع بها الضّرورات، والأمور التي يمكن أن تستباح ويُتسامح فيها في العمل الخيريّ تماشيًا مع المضايق، وكذا بعض القواعد التي تتحقّق بها المصالح وتُستجلب بها المنافع وتُحفظ بها الحاجيّات، فمن هذه القواعد:
- الضرورات تبيحُ المحظورات
- التوضيح: هذه قاعدة من قواعد التيسير الكبرى، مفادها أن المحظور شرعاً، إذا كان لا يُتوصّل إلى صَوْن ضروريّات الإنسان إلى من خلال تقحُّمه وارتكابه، فإنّه يُباح إذا انحصرت طرائق دفع الضرورة فيه، ويُباح لدفع الضرورة ورفعها ولو كان محظوراً، والضرورات هي ما يضرّ بالإنسان في مصالحه الضروريّة التي اتفق عليها أهل الإسلام، وهي الدّين والنّفس والعقل والمال والنّسل، وهذه القاعدة في الواقع هي أهمّ القواعد المتفرّعة عن القاعدة الكليّة الكبرى: «المشقّة تجلب التيسير»؛ إذ «الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع».
فإذا لم نجد من يعمل في وظيفة متخصصة تحتاجها المؤسسة الخيرية من المسلمين، فإنه يمكن الاستعانة بغير المسلم، إبقاءً على المصلحة، وحفاظًا على المنفعة العامّة التي تترتب على عمله، وكذلك المؤسسة الخيرية التي لم تجد بنوكاً إسلامية لإيداع أموالها فيها، فقد تُلجِئها الضرورة إلى فتح حسابات جارية في بنوك ربوية، تبعًا للضرورة النازلة بالمستفيدين في النوازل والكوارث، فإذا ارتفعت الضرورة بحيث وجد بنك إسلامي يمكنه الإيداع فيه والتعامل معه، فيجب سحب الودائع من البنك الربوي، لأن الضرورة تقدر بقدرها، وما جاز لعذر بطل بزواله.
- الضرورة تقدّر بقدرها
- التوضيح: إنّ كلّ تصرُّف محرّمٍ استُبيح بالضّرورة، إنّما يجوز بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة ورفعها، ولا تجوز الزيادة عن هذا الحدّ، وإلا صار إيقاع ذلك التصرُّف عدوانًا.
ومن صور ذلك: فتح حسابات في البنوك الربوية لاستقبال التبرّعات، أو تسهيل التحويلات لمناطق بعيدة، أو اختلاط الرجال بالنساء، أو الانصياع لبعض القوانين الغربيّة التي تنصّ على مضامين مخالفةٍ للشرع من أجل تسهيل بعض الأعمال الخيرية في البلاد غير المسلمة، ونحو ذلك.
- الضَّرَرُ يُزَال
- التوضيح: تقتضي القاعدة تحريم سائر أنواع الضرر في الشرع؛ لأنه نوع من الظلم، ونفي الضرر يفيد دفعه قبل وقوعه بطريق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد وقوعه بما يمكن من التدابير التي تزيله، وتمنع تكراره، لا سيما وهذه القاعدة معبَّرٌ عنها عند كثيرين بنصّ الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار»، الذي يقتضي تحريمَ ابتداء الضّرر، وتحريمَ إيقاعه على وجه الجزاء والمقابلة، إذا لم يكن في ذلك حقٌّ ولا مصلحةٌ راجحة.
فلا يسوغ إيذاء أية مؤسسة مسلمة أو الإضرار بها، سواء بالفعل أو بالقول بنشــر الشائعــات، أو الغيبة، أو بانتقاصها، أو بالتخبيب والتحريش والتحريض عليها، أو التشكيك فيها، أو الإضرار بهيكلها ودوائرها، بإفساد الموظّفين وتحريضهم على الانتقال أو إغرائهم بالتقصير ونحو ذلك.
وكذلك لا مانع من بيع التبرعات العينية إذا كانت سريعة العطب، كالمواد الغذائية التي تنتهي صلاحيتها سريعًا، أو تكون تبرعات لا تنتفع المؤسسة الخيرية بها في مجال نشاطها، أو لكونها غير صالحة لانتفاع الفئات المستهدفة بالمساعدة بها، ثم يُستبدَل بقيمتها غيرها، ما دام هذا يحقق المصلحة للفئات المستفيدة، وذلك دفعاً لضرر تَلَفِها وضياعها هدرًا.
- الميسور لا يسقط بالمعسور
- التوضيح: ما لم يكن مقدورًا على تحقيقه كلِّه، وإنجازه بتمامه، لم يُجعل ذلك ذريعة إلى تركه بالكلّيّة، مع كون تحقيق مُعظمه وأكثره ممكنًا.
فلا يُجعل العجز عن إغاثة جميع المنكوبين مسوِّغًا لترك إغاثة الممكن منهم، فإنّ المقدور عليه لا تبرأ الذمّة منه بسبب العجز عن القَدْر الباقي لتكميله، وإذا قُدّمت للمؤسّسة الخيريّة مساعدات موجّهةٌ لوجهٍ معيّن، كإغاثة اللاجئين في مكانٍ بعيد، ثمّ لم تتمكّن المؤسّسة من نقل كلّ المال إلى هناك لتعثُّر عمليّات التحويل والنّقل، لكنّها تستطيع نقل بعض المال بطرائق ممكنة، فإنّ نقل القَدْر الممكن متعيّنٌ لا يجوز تركُه لعُسر إلحاق الجزء الباقي به.
ولا يجوز أن تتوقّف النشاطات العلميّة والدعويّة في مكان ما، بحجّة أن آثارها ومردودها ليس كما ينبغي، وأن الناس في تلك المنطقة مُعرضون عن العلم والدعوة، بل لا بدّ من الحفاظ على المردود والأثر الذي تم تحصيله، ولا يُعطّل الخير بحجّة عدم اكتماله.
- الاحتساب لا يمنع الاكتساب
- التوضيح: الإتيانُ بالعملِ وإيقاعُه طلبًا في الأجر والثواب، وابتغاء مرضاةِ الله، لا يتعارض ولا يكون مانعًا من أن يترتّب على ذلك العمل كسبٌ ورزقٌ للعامل.
فالموظّف في المؤسّسة الخيريّة، إذا دخلَها ناوياً وجه الله، والتعبُّدَ بالعمل في وجوه الخير وميادين الحسنات، فأتقن عملَه واهتمّ به والتزمَ بما هو مطلوب، ثم خالجَه مع ذلك الرغباتُ الإنسانيّة في أن ينتفع بالتزامِه في تحسين وضعه الوظيفيّ، أو زيادة راتبه، أو حصولِه على مكافأة، فإنّ ذلك لا يؤثِّر في أجره إن شاء الله.
وليس من الصّواب أن يُبخَسَ العاملون في المؤسّسات الخيريّة حقوقَهم، بحجّة أنّ عملَهم عبادة، فإنّ إرضاءَهم والعناية بهم وتعديل رواتبهم حتى يكونوا كأمثالهم في المؤسسات ذات الطابع المشابه، مقصدٌ شريفٌ، ومراعاتُه حسنةٌ جدًّا، ومصلحةٌ شرعيّة، وغايةٌ مهنيّة.
- ما كان لله استُعين ببعضه على بعض
- التوضيح: ما كان حقًّا لله -تعالى- من الحقوق المالية، كالصّدقات والكفّارات والنذور والأوقاف على جهات البرّ، فإنّه يُعمل في هذا المال بمقتضى المصلحة والنفع، فالكلّ لله -تعالى-، وما دام غير مخصّص ولا مشروطٍ، وإنّما أخرجه من أخرجه لله، فيُستعان ببعضه للصّرف على بعضه، إذا لم يخالف ذلك المصرف الذي اشترطه الواقف أو المتبرع.
وهذه القاعدة توجه طريقة الصرف في الأعمال الخيرية والوقفية وضوابط نقل المال من مصرف إلى آخر، وأنّ التصرف في المال الخيري والوقفي، الغالب أنّه مقيد بشروط ينبغي أن يراعيها متولّي هذا المال، لكن إذا كان التبرُّع أو الوقف على جهاتٍ عامّة مثل: سبيل الله، ووجوه الخير، ووجوه البرّ، فإنّ هذا المال يُستعانُ ببعضِه على نقل بعضِه، ويستعان ببعضِه على تنمية بعضه الآخر، ونحو ذلك، فإنّ ما أضافه الله -تعالى- إلى نفسه، فجهته جهة المصلحة.
لاتوجد تعليقات