رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 23 سبتمبر، 2024 0 تعليق

القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري ( 3 )

  • الأجدر بالمسلم أنْ يبتعد عن مواضع التُّهَم التي تسبب الشك في حاله أو تفضي إلى اتهامه
  • والعامل في المؤسسات الخيرية، بحُكم ما يمنحه العمل من الصلاحية والثقة على المستوى الاجتماعي
  • العدل ضدّ الظّلم وأصل الظّلم نقص الحقّ ووضع الشيء في غير موضعه وهو أداء الحقوق على وجه الكمال، وتوفية الحاجات للمحتاجين وإيتاء الحقوق للمستحقّين من غير نقصٍ ولا شطط
 

تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.

التنـزه عن مواطن الريبة أولى

       التوضيح: الأجدر بالمسلم أنْ يبتعد عن مواضع التُّهَم التي تسبب الشك في حاله، أو تفضي إلى اتهامه بما لا يليق به؛ ولا شكّ أنّ العامل في المؤسسات الخيرية، بحُكم ما يمنحه العمل من الصلاحية والثقة على المستوى الاجتماعي، بما يتوفّر له من الاطّلاع على الحاجات المستورة للفقراء، وما يحتاجه هو من التحقُّق من صدق تلك الاحتياجات، وما يتبع ذلك من العلاقات المباشرة مع أهلها، كلُّ ذلك يجعله عُرضة للرِّيبَةِ والشكوك، إذا لم يلتزم بما وُضع له من قواعد وأصول شرعية ومهنيّة، ولوائح وتعليماتٍ إداريّة. فإطالة الكلام مع النِّساء من أهل العَوَز والحاجة، في كلِّ ما زاد عن حاجة العمل من مواطن الرِّيبة التي يجتنبها العامل الموفّق، كذلك التساهل في الاختلاط بالنِّساء من غير حاجة، وفي مواطن يمكن تجنُّبُه فيها، والأمر ذاته في سؤالهنّ عمّا لا منفعة فيه ولا حاجة للاطّلاع عليه، فكلّ ذلك باب مفسدةٍ عظيمةٍ يجعل من ولجه عرضةً للتهمة، فيتعيّن اجتنابه وإغلاقه والابتعاد عنه.

لكلِّ مجتهدٍ نصيب

        التوضيح: كلُّ من كان أهلاً للاجتهاد وتقدير الصواب في مجالٍ ما، فإنّ له نصيبًا من الثواب والأجر ولا بدّ، إذا صلحت نيّته لله -تعالى-؛ لأنّه لا يكون ثوابٌ إلا بنيّة، هذه إحدى قواعد باب الاجتهاد الأصوليّة، وأصلها قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكمَ الحاكمُ، فاجتهدَ فأصابَ، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأَ، فله أجرٌ».

        فقد تُنتقد المؤسسات الخيريّة في باب تقديراتها للأنصبة والحصص التي تفرضها شهريًّا للأسر المتعفِّفة وأهل الحاجات، ولن تعدم دوماً داعياً إلى الزيادة أو النُّقصان، ولا شكّ أن الانتقاد بهدف التصويب جيّد ومطلوب، أما الإهدار والانتقاص فلا يجوز؛ لأنّ التقديرات تُقرّر بناء على البحث والتفتيش والتنقيب من مؤهَّلين ومتخصِّصين، وهؤلاء يجوز لهم إبداء الرأي وتقرير ما يرونه مناسباً، وهم مأجورون في خطئهم وصوابهم، لذا لابدّ من الحفاظ عند محاولات النّقد والتصويب، على الحدّ الأعلى من الأخلاقيّات الأخويّة؛ لأنّ المؤهَّل إذا أخطأ، فغاية أمره أنّه سُلب الأجرَيْن واستقرّ له الأجر، ومثل هذا لتصويب عمله سبيلٌ غير سبيل علاج تصرُّفات المعتدين والمقصّرين والمهملين.  

المعتدي في الصدقة كمانعها

التوضيح: هذا نصُّ حديثٍ شريفٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيان من هو المعتدي في الصدقة، وكيفيّة اعتدائه، أقوال:
  • الأوّل: هو الذي يعطيها غير مستحقِّها.
  • الثاني: هو المُصدِّق أو الجابي، الذي يأخذ من الصدقة فوق الحدّ الواجب شرعاً، فيعتدي على أموال النّاس بالباطل، ويستبيح منها ما لا يبيحه الله ولا رسولُه.
  • الثالث: هو الذي يجاوز الحدّ المُحتمل في الصدقة، فلا يُبقي لعياله شيئًا.
  • الرابع: هو الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي بها.
لذا فالتساهُل في توزيع الزّكاة الواجبة على أُناس لا تملك المؤسسة الخيريّة معلوماتٍ كافيةً عنهم، من أنواع الاعتداء في الصدقة أيضاً، بل هذا ظاهرٌ في الاعتداء؛ لما فيه من التفريط والاستهانة بالأمانة، بصرف النّظر عن كون هذه الصورة هي المقصودة بالحديث أم لا؛ لأنّ جنس الاعتداء ممنوعٌ شرعاً.  

الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود

        التوضيح: هذه قاعدةٌ كبيرةُ المعنى تتعلّق بخُلُق الالتزام بالمطلوب، والاستقامة عليه، والحذر من الشواغل والجواذب التي تجذب المكلَّف بعيداً عن خطِّ الصواب، وتشغله عن واجب الوقت، فـ «إنّ الأعمال والأحكام المطلوبةَ شرعاً لها مقاصد محدّدة، وأوقاتٌ خاصة أحياناً، فإن اشتغل الشخص بشيء غير مقصودٍ شرعاً من الفعل، فهذا يدلُّ على إعراضه عن المقصود المطلوب، ويتحمل نتائج تصرفه»، فإذا كلَّفت المؤسسة الخيرية أحد موظّفيها بعملٍ، على أنّ له أجراً معيّناً عليه، فلم يقم به، أو تساهل فيه بما أفضى إلى تضييعه وتفويت المصلحة المقصودة منه، استحقّ بذلك حرمانَه ممّا وُعد به، وترتيب كلِّ ما يستحقُّه من العقوبات الإداريّة على تصرُّفه.  

لا عبرة للتوهم

        التوضيح: التوهُّم لا يصلح مستنداً لبناء الأحكام الشرعيّة، كما لا يصلح مستنداً لتأخير الأحكام الثابتة شرعاً وقضاءً عن وقت تنفيذها، والتوهُّم هو: إدراكُ الشيءِ مع احتمالِ ضدٍّ راجحٍ، أو هو: إدراك الطّرف المرجوح من طرَفَيْ أمر مترَدَّدٍ فيه، فكلُّ مُدْرَكٍ على هذا النّحو موهومٌ أو متوهّمٌ، وحكمُه في الشّرع ألا عبرةَ به، بمعنى لا اعتدادَ ولا اعتبار، فلا يمنع حكماً، ولا يعطّل حقًّا، ولا يؤخّر قضاءً، ولا يشوّش على استحقاق. فإذا رأت المؤسسة الخيريّة أن تتصرّف ببعض التبرعات المادّيّة بالبيع، وعُرضت عليها الأسعار المعتادة في السوق لتلك السِّلَع، لا تُؤخَّر المصلحة الخيريّة بناء على توهُّم أن يأتي عرضٌ آخر بسعر أفضل، لأنّ الخروج الفاحش عن المعتاد نادرٌ موهوم، ولا سيما بعد التحرّي والتوقّي واتخاذ التدابير اللّازمة، فإنّ الاعتماد على التوهّم على الرغم من ذلك سيؤول إلى تعطيل المصلحة وتأخير الإجراء النافع، ومن ثم الإضرار بالصالح العام.  

تبدُّل سبب الملك قائمٌ مقام تبدُّل الذّات

       التوضيح: هذه قاعدةٌ عريقةٌ تحتها فروعٌ كثيرةٌ مهمّةٌ، وهي تنتمي إلى قواعد نظريّة الملك في الفقه الإسلامي، مؤدّاها أنّ السبب أو العلّة التي يُملَك بها المال، إذا تغيّر، فهو في قوّة ومنزلةِ وحُكم وتأثيرِ تغيُّر عين المال، فكأنّه صار مالاً آخر غير الأوّل، ولا يخفى عند النّظر في نصّ هذه القاعدة ومعناها أنّ ميدان تطبيقها هو الحكم على مشروعيّة تملُّك المال عند تنقُّله بين أيدي النّاس بأسبابٍ مختلفةٍ في الحكم بين المشروعيّة وعدمها. فمن تطبيقاتها: من كان ذا مالٍ حرامٍ، كسبه من الاتّجار في المحرّمات كالخمر والمخدّرات، أو من مهنةٍ يغلب عليها الحرام غلبةً بيّنةً كتعاطي المعازف والتمثيل ونحو ذلك، فإنّ كسبَه محكومٌ عليه بالحُرمة والخُبث، لكنّه إذا تبرّع به لمستحقٍّ للصّدقة، أو لمؤسّسةٍ خيريّة، فلا تثريب على الآخذ في قبولها والتصرّف فيها؛ لأنّ المتكسّب كسبَ بسببٍ محرّم، فقد كسبَها الآخذ بسببٍ مباحٍ صحيحٍ وهو التبرّع أو الهبة، فلمّا اختلف سبب التملُّك وعلّة الانتقال، انتقل حكم المال من الحرمة إلى الحلّ، فصار كما لو أصبح مالاً آخر تماماً، وذلك بحسب ما تقتضيه القاعدة وتدلّ عليه.  

العدلُ مأمورٌ به في جميع الأمور

        التوضيح: العدل ضدّ الظّلم، وأصل الظّلم نقص الحقّ، ووضع الشيء في غير موضعه تعدّياً، فيكون المعنى: المأمور به شرعاً في كلّ حالٍ ووقتٍ وحينٍ هو أداء الحقوق على وجه الكمال، وتوفية الحاجات للمحتاجين، وإيتاء الحقوق للمستحقّين، من غير نقصٍ ولا شطط، وهذه القاعدة على هذا المعنى من أصول الشريعة وقطعيّاتها وأركانها؛ إذ يدلّ على وجوب العدل في كل الأمور ما لا يحصى من النّصوص، وقد طوّر بعض أهل العلم صياغتها على نحوٍ أوسع فقال: «العدلُ واجبٌ والفضل مسنون».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك