القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري ( 2 )
- ما يصدر عن الحاكم أو من يتولّى أمرًا من الأمور التي تتعلّق بتدبير أمور النّاس وسياستهم ينبغي أن يكون متعلِّقاً بتحقيق المصلحة لهم ودفع المفسدة عنهم
- مقتضى الخطاب الشرعيّ في ذمّة المكلّف لا يثبت إلا بعد علمه به وبلوغه إيّاه وقدرته على إنفاذه والامتثال له والمراد بمقتضى الخطاب هنا هو الأحكام التكليفيّة الخمسة
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد
هذه قاعدة أصوليّة متفقٌ عليها، وتوضيحها: أنّ «اجتهاد المجتهد في المسائل الظنيّة التي لم يرد فيها دليلٌ قاطعٌ، لا يُنقض باجتهاد مثله إجماعاً، أي في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ لأنه لو نُقض الأوّل بالثاني لجاز أن يُنقض الثاني بالثالث؛ لأنّه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدّي إلى عدم الاستقرار، ويلزم التسلسل»، وهذه القاعدة ليست قاصرةً على حُكم الفقيه المجتهد والقاضي فقط، بل يدخل فيها كلّ مكلّف، سواءً كان شخصاً حقيقيًّا أم اعتباريًّا كالشّركة والجمعيّة والمؤسّسة، وذلك فيما يسوغ فيه الاجتهاد من غير المجتهد.ممّا يتخرّج على القاعدة
القرارات الإداريّة التي تُتّخذ في مرحلةٍ ما من عمر المؤسّسة، التي قد يكون ترتّب عليها بعض النّفقات والإجراءات التنفيذيّة، لا يلزم الرجوع عنها بإبطال آثارها إذا تبيّن أنّها كانت خطأ، وإنما يُتحوّل عنها لاتخاذ المسلك الصحيح في المرحلة المستقبليّة. وكذا المجتهد في تقييم استحقاق جهةٍ ما من مال الزكاة، أو في انطباق شروط بعض الواقفين عليها، ثم يتبيّن له خطأ الاجتهاد الذي عمل به مدّةً، يلزمه تصحيحه ولا يلزمه تصحيح آثاره، ولا يضمن شيئاً بسببه، إذا كان ممّا يسوغ منه ويُقبل.التكليفُ مشروطٌ بالتمكُّن من العلم والقدرة على الفعل
التكليف: هو إلزامُ مقتضى خطاب الشارع، فيكون المعنى أنّ مقتضى الخطاب الشرعيّ في ذمّة المكلّف لا يثبت إلا بعد علمه به، وبلوغه إيّاه، وقدرته على إنفاذه والامتثال له، والمراد بمقتضى الخطاب هنا هو الأحكام التكليفيّة الخمسة من وجوبٍ واستحبابٍ وكراهةٍ وتحريمٍ، وكذا الإباحة، لأنّها مقتضى الخطاب إذا كان الخطابُ خطابَ تخيير. ونحن إذا نظرنا في مسألة القدرة المشروطة في القاعدة وجدنا أنّها أصلاً تؤول إلى العلم، لأنّ ما تعذّر العلمُ به لم تكن ثمّة قدرةٌ على الامتثال له.ميدان هذه القاعدة
لذلك فالكلام في هذه القاعدة ليس هو الكلام المشهور للأصوليّين عند تحريرهم لشروط التكليف، إذ يجمعون على اشتراط العلم عند تعدادهم لشروط المكلَّف، أو شروط المكلَّف به، وإنّما ميدان هذه القاعدة هو الجواب على السؤال الآتي: هل يثبت أثرُ الخطابِ الشرعيّ في ذمّة المكلّف قبل بلوغه إيّاه؟ بمعنى أنْ يُطالَبَ بقضاءِ ما يكلّفه به الخطابُ عن الفترةِ التي كانت قبل بلوغه؟ أم لا أثر للخطابِ مطلقاً قبل بلوغه، ولا يمكن أن تترتّب عليه مطالبةٌ إلّا بعد بلوغه المكلَّفَ؟ الرّاجح الثاني، وهو ما تنصّ عليه القاعدة.من ثمرات القاعدة
ومن ثمراتها مثلاً: من لم يبلغه الخطابُ بالصّلاةِ، هل يُؤمَر بقضاء ما فاته من الصّلوات التي كانت بين يوم بلوغه إلى اليوم الذي بلغه فيه الخطاب لأنّه مطالبٌ منذ أن صحّ خطابُه وإن لم يبلغه الخطاب؟ أم لا حكم ولا أثر للخطاب الشرعيّ إلّا بعد بلوغه وسماعه والعلم به؟ الراجح الثاني.ما يتخرج عن هذه القاعدة
ويتخرّج على هذه القاعدة كثيرٌ من الفروع والأنواع: إذا تعامل المسلم -شخصاً حقيقيًّا أو اعتباريًّا- بمعاملةٍ كان يراها صحيحةً باجتهادٍ ممّن يسوغ منه، أو استفتاء، ثمّ ظهر له أنّ الصحيح بطلانها، لم يحرم عليه الانتفاع بآثارها والالتزام بحكمها. وكذا ناظر الوقف، أو الوصيّ على المال، إذا تصرّف تصرُّفاً من مضاربةٍ أو مزارعةٍ أو تأجيرٍ، ثمّ تبيّن له خطأ اجتهاده أو بطلانه، لم يكن ضامناً لآثاره إذا كان محتاطاً بما يكفي لإبراء ذمّته.الإنفاق لا يحتمل التأخير
هذه القاعدة من القواعد الحاكمة على زمن التصرُّف، فالواجب على المُنْفق إعطاء ما وجب عليه من النفقة في وقتها المحدد المعتاد، ففي حالات النكبات والنوازل العامّة والكوارث، فإن تقديم المساعدات الفورية من طعام وشراب وأغطية وأماكن الإيواء مقَدَّم على ما دونه من الأعمال الخيرية؛ لأن في ذلك حفظ النفس، والإنفاق على مثل هذه الأساسيات واجب لا يحتمل أدنى تأخير. ولا يجوز تأخير صرف مستحقات أهل العوز والحاجة، الذين يُصرف لهم مخصصات شهرية من المؤسسات الخيرية؛ لأن في ذلك ضررا وتضييقا عليهم، فلا بدّ من تلافيه طالما كان ذلك ممكنًا، وكذلك صرف مستحقات العاملين في المؤسسات الخيرية، أمر لا يحتمل التأخير، لكون تأثيره على مسيرة المؤسسة الخيريّة يكاد يكون سريعاً ومباشراً.إنّما يُؤمر بالانتظار إذا كان مفيداً
قد يُشرع ويجوز تأخير إيصال الحقّ، وأداء الواجب، إذا كانت تتحقّق بذلك الانتظار منفعةُ أن يلاقي الواجب محلّه الصحيح الكامل شرعاً، أمّا إذا لم يكن في التأخير مصلحةٌ راجحةٌ كهذه، فإنّه لا يجوز. ومن التطبيقات على ذلك: مستحقّو الزكاة، فإنّ الزكاة تُدفع من صاحب المال في وقتٍ مخصوصٍ لا يجوز أن يؤخّرها عنه، وهو اكتمالُ الحول القمريّ، لكن المؤسّسة الخيريّة التي تستلم هذا المال وتنوب عن دافعه في إيصاله إلى المستحقّ، لها أن تنتظر وتتربّص مدةً لتجد من هو متصفٌ بصفات الاستحقاق الكاملة، وهذا الانتظار والتأخير إنّما يُتصوّر أن يكون مفيداً في ظروفٍ دون ظروف، كأن يُنتظر وصول موجاتٍ جديدةٍ من النازحين والمنكوبين إلى بلدٍ ما، من بلدٍ يُتوقّع مجيئهم منها لاضطرابٍ فيها، أمّا في الأحوال الاعتياديّة فلا معنى لهذا الانتظار؛ لأنّ مجيء المستحقّ توهّم، وقد سبق أنّ التوهّم لا عبرة به.كلُّ متصرف على الآخر فعليه أن يتصرّف بالمصلحة
نفاذ ما يصدر عن الحاكم أو من يتولّى أمرًا من الأمور التي تتعلّق بتدبير أمور النّاس وسياستهم، ينبغي أن يكون متعلِّقاً بتحقيق المصلحة لهم، ودفع المفسدة عنهم، وهذا يشمل الوالي، والقاضي، ووليَّ البنت، ومتولِّي الوقْف، والوصيَّ، وغيرهم. فتصرُّف القُضاة في أموال الأيتام، والأوقاف، وكذا قُضاة الاختصاص الذين يتولَّوْن إصدار الأحكام في قضايا المؤسّسات الخيريّة نفسها، سواءً كان ذلك في فترة نشاطها وعطائها، أم عند مرحلة حلِّها، إما على إثر الخلافات، أو لغير ذلك من الأسباب، هم أيضاً مُطالبون بمراعاة المصلحة الشرعيّة في ذلك، والمطالبة نفسها تتعدّى أيضاً إلى مشرِّعي القوانين الخاصة بالجمعيّات الخيريّة.
لاتوجد تعليقات