رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. عبدالمحسن الجار الله الخرافي 7 أغسطس، 2017 0 تعليق

القطاع الثالث وحفظ الموارد للأجيال القادمة الحلقة (9) (الكويت أنموذجاً)

 نهض القطاع الثالث في تاريخنا الإسلامي، وضمن من خلال تنوعه وحجمه وضوابطه لحضارتنا الإسلامية في الازدهار عمراً لم تماثلها فيه حضارة من الحضارات، وكان سياجاً في حماية الأصول المالية، وضماناً لاستمرار عطائها لأجيال عديدة، وقد ترك القطاع بمؤسساته ومخرجاته بصمات لا تُمحى في صفحات التاريخ الإسلامي؛ لذلك نعرض في حلقات للإصدار الأخير لمركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية الذي جاء بعنوان: (القطاع الثالث ودوره في تحقيق التنمية المستدامة)، الذي تولى كتابة مباحثه ثلة من المختصين والباحثين في مجال العمل المجتمعي من خيري ووقفي وتنموي.

 

إنه مما لا شك فيه أن سياسة الاعتماد على موارد بعينها في دولة ما دون العمل على خاصية التنوع هو هدر لهذه الموارد، وحرمان للأجيال اللاحقة منها، ولاسيما إذا كانت تلك الموارد محدودة أو تابعة لما يسمى بالموارد الناضبة، وهو أمر بالغ الخطورة، ويحتاج إلى العمل على إيجاد موارد بديلة يمكن الركون إليها والاعتماد عليها في تحقيق النهضة المطلوبة وتثبيت دعائمها.

     ومن أولى الموارد التي يمكنها أن تكون أداة لتنظيم استهلاك الموارد الناضبة وإطالة أمدها بغية إيصال عائدها وخيراتها للأجيال القادمة مورد القطاع الثالث يتقدمه القطاع الوقفي؛ فهذا المورد إذا ما أحسن استغلاله وتوظيفه واستثماره على الوجه المطلوب فإنه بلا شك سيخفف من الضغط على الموارد الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى بقائها فترة أطول لتستفيد منها الأجيال اللاحقة، في بلدان عالمنا الإسلامي كافة والكويت خصوص باعتبار أنها في طليعة الدول الإسلامية التي يحظى القطاع الثالث فيها بأدوار كبرى، فضلاً عن أن موارده الأخرى وعلى رأسها الموارد النفطية بحاجة إلى تخفيف الضغط عليها لإطالة أمدها فترة أطول؛ بغية إيصال خيرها ونفعها إلى الأجيال القادمة، وفي هذا الجزء سنستعرض دور القطاع الثالث في حفظ الموارد للأجيال القادمة في دولة الكويت، مستهلين حديثنا بأبرز معالم هذا الدور.

أبرز معالم حفظ الموارد للأجيال القادمة عبر القطاع الثالث

حفظ الموارد للأجيال القادمة عبر القطاع الثالث أمر يجب أن ينطلق من إطار مدروس، له آليات واضحة يجب أن يسير وفقها، وله معالم ينبغي على كل مؤسسات المجتمع المشاركة فيها والتعاون على تحقيقها، ولعل من أبرزها.

العمل على حُسن استثمار القطاع الثالث بكافة مؤسساته وإيلائه منزلته اللائقة به ليحفظ للأجيال القادمة مواردها.

وسنضرب على ذلك مثالاً بأمرين أو مشروعين:

مشروع استثمار الوقف بوصفه أحد أهم مؤسسات القطاع الثالث.

مشروع استثمار فائض أموال الوقف وأهميته في حفظ الموارد.

وهذان المشروعان وإن كان بينهما تداخل إلا أنهما يتميزان عن بعضهما بأن الأول منهما يعنى به استغلال عين الأوقاف والثاني استغلال فائض غلتها.

ونبدأ بمدخل يبين معنى استثمار الوقف وأهميته ودوره في حفظ الموارد للأجيال القادمة وتنميتها.

- بيان معنى الاستثمار:

الاستثمار في اللغة: مصدر مشتق من ثمر يثمر فهو ثامر، والثَّمَرُ: حَمْلُ الشَّجَرِ. وأَنواع الْمَالِ وَالْوَلَدِ: ثَمَرَةُ الْقَلْبِ، ويقال: ثمَّر ماله أي نمَّاه وكثَّره، والسين والتاء للطلب.

فالاستثمار إذاً هو طلب الثمرة، أي الحصول على ما يرجوه المستثمر مستقبلًا.

وأما الاستثمار في الاصطلاح الاقتصادي العلمي فيعنى به «الإنفاق الرأسمالي لإنشاء مشروعات جديدة، أو استكمال مشروعات قائمة، أو إحلال أصول متقدمة وتحديثها، وكل إضافة صافية إلى البنية التحتية والهياكل الإنتاجية ورفع الكفاءة الإنتاجية البشرية.

ويمكن تعريفه أيضاً بأنه: جهد واع، رشيد، يبذل في الموارد المالية والقدرات البشرية بهدف تكثيرها وتنميتها والحصول على منافعها وثمارها.

- بيان المراد باستثمار مؤسسات القطاع الثالث وأثره على حفظ الموارد:

استثمار مؤسسات القطاع الثالث يعني إحداث النماء فيها. والنماء في اللغة يطلق على الزيادة، والمال النامي هو الذى تلحقه الزيادة.

     واستثمار مؤسسات القطاع الثالث وكياناته وحسن استغلالها يلقي بظلاله على كل موارد الدولة ومقومات الحياة فيها، سواء أكانت تلك الموارد اقتصادية بكل مشتملاتها (من زراعة وصناعة... وغيرها) أم اجتماعية أم بشرية محضة أم حتى بيئية، وذلك لأن هذا الاستثمار يحظى بمردود فعال وسريع على كل تلك الموارد والمقومات.

     فهو إضافة ثرية لخزانة الدولة العامة، تمكِّنها من إقامة مشروعات تنموية نهضوية تعمل على خلق فرص عمل وتدريب واستغلال للطاقات البشرية واستفادة منها، وهذا كله يقلص الفجوة بين الشرائح المجتمعية فتنعم جميعها بالسلام الاجتماعي، ناهيك على أن القطاع الثالث أصلاً له مردود اجتماعي محض؛ لأن كثيراً من مكوناته موجهة أساسا إلى الشرائح المهمشة بغية مساعدتها ونقلها من حال إلى حال أفضل، أو من حال الكفاف إلى حال الكفاية وبعده إلى حال الكفاءة، فضلاً عن الأثر العظيم الذي يتركه هذا القطاع على الموارد البيئية براً وبحراً من حسن استغلالها والانتفاع بها فتعمر الأرض، وكل هذا من دعائم النهوض بالمجتمع وتنمية موارده لتسعد بها الأجيال المتعاقبة.

ونظراً لمحدودية حجم الصفحات المتاحة لنا، الأمر الذي سيضطرنا إلى تقليص الحديث عن موارد هذا الاستثمار، وتخصيصه في استثمار الوقف لكونه أحد أهم مكونات القطاع الثالث.

المشروع الأول: استثمار الوقف بوصفه أحد أهم مؤسسات القطاع الثالث:

 ويراد باستثمار الوقف: ما يبذله ناظر الوقف من جهد فكري وإداري ومالي من أجل الحفاظ على الممتلكات الوقفية وتنميتها بالطرائق المشروعة ووفق مقاصد الشريعة ورغبة الواقفين، بشرط ألا تعارض نصا ًشرعياً.

لما كان الغرض من الوقف حبس المال والانتفاع من ثمرته، كان هذا من أهم دواعي استثمار أصوله؛ إذ لولا القيام بعملية الاستثمار لعطلت منافع هذا الوقف، ولم يتحقق مفهوم الصدقة الجارية التى أطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولقد تنوعت أساليب هذا الاستثمار وطرائقه على مر العصور الإسلامية فهناك أساليب تقليدية وأساليب معاصرة.

وقد ضم الفقه الإسلامي أنواعا عديدة لاستثمار الوقف منها:

الاستثمار بالمعاوضة – الاستثمار ببيع الشيء الموقوف – الاستثمار بتغيير المنفعة- الاستثمار بالإضافة والتوسعة للشيء الموقوف.

     هذا فضلا عن بعض الأساليب التقليدية لاستثمار الوقف كتلك الأساليب التي درج نظار الوقف على استخدامها، التي لا تتعدى إيجار الأبنية والحوانيت والأراضي الموقوفة، وزراعة ما يصلح للزراعة، وتعهد بساتين الوقف بالسقيا والرعاية، وبيع غلاته وثمراته، واستبدال أعيانه عند الحاجة أو المصلحة الراجحة إلى غير ذلك، ثم تطورت هذه الأساليب التقليدية إلى ما يعرف بنظام الاحتكار والإجارتين والمرصد والخلو والإجارة الطويلة. وقد ظهرت هذه الأساليب خصوصًا في عصر الدولة الفاطمية في مصر، والدولة العثمانية في تركيا.

     أما الأساليب المعاصرة لاستثمار الوقف فيمكن إيجازها في صيغة المضاربة، والسلم، وصكوك الإجارة، والمقارضة أو المشاركة المتناقصة والصكوك العقارية، والمزارعة أو المخابرة، والاستثمار في أسهم أو حصص رأسمال الشركات، وصناديق الحصص أو المحافظ الاستثمارية مع ملاحظة أن بعض هذه الصيغ تثير العديد من الإشكاليات الفقهية، إلا أنها في الغالب أسهمت في توفير صيغ وقفية مناسبة للحياة المعاصرة، ساهمت في تمويل المشروعات المنتجة في كثير من الدول الإسلامية؛ الأمر الذي يؤدي قطعاً إلى نماء مواردها وحفظها للأجيال المتعاقبة.

     فإنشاء وقف إسلامي هو أشبه ما يكون بإنشاء مؤسسة اقتصادية Economic Corporation ذات وجود دائم. فهو عملية تتضمن الاستثمار للمستقبل والبناء للثروة الإنتاجية من أجل الأجيال القادمة، لتوزع خيراتها في المستقبل على هيئة منافع وخدمات أو إيرادات وعوائد، كل ذلك يجعل وقف كل من الأسهم والحصص أو الوحدات في الصناديق الاستثمارية والودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية من أهم الأنظمة الحديثة للوقف التى تنسجم مع حقيقة المضمون الاقتصادي للوقف الإسلامي، كما مارسه الصحابة الكرام منذ وقف بئر رومة من قبل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ووقف أرض بستان في خيبر من قبل عمر - رضي الله عنه -، وكلاهما في العصر النبوي الشريف، ثم أوقاف الصحابة للأراضي والأشجار والمباني، وكما عبر عنه الأئمة الكبار في القرنين الثاني والثالث من الهجرة في دراساتهم وتحليلاتهم الفقهية؛ وذلك لأن الأسهم والحصص والودائع تتضمن معنى الاستثمار لبناء ثروة إنتاجية، تستفيد الأجيال القادمة من منافعها وعوائدها، شأنها في ذلك شأن البساتين والنخيل والمباني.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك